وقاية الإنسان من تسلط الشيطان
وقاية الإنسان من تسلط الشيطان
بسم الله الرحمن الرحيم، وبه أستعين وهو حسبي ونعم الوكيل.
مقدمة: -
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾[آل عمران: 10].
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].
﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71].
أما بعد:
فإن أصدقَ الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمد صلى الله عليه وسلم وشرَّ الأمور محدثاتُها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار[1].
اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختُلِف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم[2].
يعاني كثيرٌ من الناس مشكلةً كبيرة قد تكون لها علاقة بجهلهم بدين الله عز وجل من جهة، وقد تكونُ حاصلةً من جهة تفريطهم وتضييعهم لسنة نبينا صلى الله عليه وسلم التي أصبحت مهجورة في هذه الأيام، بل العاملون بها قليل، قليل جدًا، مع هذا السواد الكثير من المسلمين (ولكنهم كغثاء السيل) ولا حول ولا قوة إلا بالله، بل يعد هؤلاء الأشخاصُ الذين يعملون بالسنة من الغرباء في هذا العصر، المستَنكَرين، المنظورَ إليهم نظرة المبدلين لدين الآباء (ولو كان مبنيًا على ضلالٍ من شرك وعبادة قبور ودعاء أولياء وصالحين وأنبياء وغيرهم من دون الله تعالى).
وهذا دأب من يدعو لدين الله الحق، وهو الذي بعث به الرسل، وأنزل فيه الكتب، فإنه يكون منبوذًا مطرودًا من قومه، محارَبًا من أهله، وحيدًا في توحيده وعبادته، ولكن هذا النكير الذي يجدونه من قومهم وأهل زمانهم لا يصدهم عن دعوتهم ولا يسد أمامهم الدروب، ولا يؤذيهم الشوك الذي يجدونه في طريقهم، فهم لهم أسوة حسنة، بل أسوتهم خير من مشى على وجه الأرض، بل خير أهل الأرض والسماء، وهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فهم يعلمون أن الأنبياء قد ابتُلُوا بمعاداة قومهم، وطردهم لهم من أوطانهم، بل قد يصدُّ عنهم من هو أقرب الناس لهم من زوجةٍ وولدٍ وأبٍ، وهم كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي قوامة على أمر الله، لا يضرها من خالفها)[3].
إن هؤلاء يعبرون عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل)[4]، إذًا فالبلاء كما أصاب الأنبياءَ من قبلهم - وهم خير منهم وأحب إلى الله عز وجل - فهو لا محالة قادم إليهم، ما داموا على طريقتهم وهديهم، فهم ورثتُهم وحاملو لوائهم، ومُحيُو سننهم وهديهم وأخلاقهم، كما قال صلى الله عليه وسلم مبينًا ذلك وموضحًا: (إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر)[5].
فمن يكون العلماء غير أصحاب سنته وهديه صلى الله عليه وسلم؟ هم الطائفة المنصورة والفرقة الناجية الذين يصلحون إذا فسد الناس، على الحق ظاهرون، لا يضرهم من خالفهم وخذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك الظهور، فلله درهم من قوم اصطفاهم الله تعالى على جميع الناس بعد الرسل.
فهم الذين ينصر الله بهم هذا الدينَ، ويقوّم بهم اعوجاجَ المنحرفين، فهاتِ يدك يا أخي، وضعها في يدي، وتعالَ لنكون من هؤلاء القوم، ونفوز بمحبة الله عز وجل باتباع نبيه صلى الله عليه وسلم كما قال في كتابه: ﴿ قلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [آل عمران: 31].
بعد هذا الذكر العطر لهؤلاء الثلّة نعود لنتكلم عن تلك المشكلة التي هي إحدى الحفر التي يقع فيها المبتعدون عن السنة، وهي مشكلة تسلط الشياطين على بني آدم، سواء كان ذلك في النوم أو في اليقظة، فكثير من بيوت المسلمين تعاني آثارًا نفسية ومشاكل عصبية وروحية بل وجسدية من جراء تسلط أعدائهم الذين لا ينامون ولا يرقبون فيهم إلاً ولا ذمة من الشياطين (شياطين الإنس والجن)، فتجد الآباء يعانون مشاكلَ مع أطفالهم إثر نومهم؛ إذ يصحو الطفل فزعًا وصارخًا من نومه خائفًا لأنه يرى شبحًا على قوله أو حيوانًا مفترسًا أو لصًا أو غيره مما يخوفه ويجعله لا يستطيع النوم طوال الليل، فيجهش هذا الطفل المسكين بالبكاء ليوقظ من في البيت لينجدوه ويخلصوه من تلك الكوابيس التي يراها.
ومن جهة أخرى تجد الكبار الذين يعانون القلق والأرق والتفكير قبل النوم، وإذا ناموا فإنهم ينتقلون إلى عالم مليء بالكوابيس والأحلام المزعجة التي تقض مضجعهم، وتوقعهم في أمراض نفسية وعصبية كثيرة، حتى إن بعضهم يبدأ في الذهاب إلى الأطباء إن عصمه الله تعالى وكان من الذين أنعم عليهم، ولم يذهب إلى السحرة والمشعوذين، أو إلى غيرهم من الضالّين المضلين عن دين الله، ظانًا أن الخلاص من تلك الأمراض النفسية بيدهم (كالمستجير من الرمضاء بالنار) فيوقعونه - والعياذ بالله - في السحر والشرك والاستغاثة بغير الله من الشياطين، وهذا ما يريده الشيطان؛ يريد غواية البشر وصدهم عن الصراط المستقيم كما قال الله في كتابه ﴿ قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ﴾ [الحجر: 39 - 40]
ولكن:
إخواني وأحبائي، شرعُنا الحنيف لم يتركنا هكذا مكتوفي الأيدي، لا يدلنا على الخلاص والوقاية من تلك المشاكل، بل إذا سألت وفتشت في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وسيرة سلفنا الصالح ستجد الجواب الكافي والدواء الشافي من تلك الابتلاءات والمصائب.
فهاهو هدي نبينا صلى الله عليه وسلم يدلنا ويوجهنا إلى الخلاص والنجاة والسلامة، فهل من متعظ؟ فهل من مقتدٍ؟ فهل من آخذ بسبيل الرشاد والسلامة، مستعصم ومستمسك بحبل الله المتين؟ ﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً ﴾ [الإسراء: 65].
وقاية الإنسان من تسلط الشيطان:
فهذي أخي القارئ بعضُ وسائل تسلط أعداء المؤمنين من الشياطين عليهم والدلالة على طرق معالجتها وصدها من هدي خير الأنام عليه أفضل الصلاة والسلام.
أولاً - اتخاذ الصور والتماثيل في كثير من بيوت المسلمين:
ابتُلِي أكثرُ المسلمين اليوم باتخاذ الصور والتماثيل وجلبها إلى بيوتهم بحجة الزينة، فعندما تدخل إلى أحد تلك البيوت تجد العجب وكأنك داخل إلى أحد المعارض التي تضم أنواع اللوحات والصور، فعندما تنظر إلى الحائط تجد اللوحات المعلقة فيها صور من بشر وحيوانات وغيرها من ذوات الأرواح، ولو صرفت بصرك تجاه الطاولات فتجد أنواع التماثيل من الأحجار والأخشاب المنحوتة مجسمة، وعند جلوسك على الفرش والوسائد تجدها منقوشًا عليها الطيور والفراشات وغيرها مما له روح.
إنّ هذه الصور والتماثيل تطرد الملائكة من البيت، وهي سبب رئيس لعدم دخولهم فيه، إذًا بيت ليس فيه ملائكة ماذا فيه؟ الشياطين بالتأكيد، بل الأفظع هو حال الأطفال المساكين، فتجد غرفَهم مليئةً بالصور لشخصيات كرتونية مجسمة ذات أرواح، وألعابهم أكثر فأكثر.
فكيف أخي الكريم تخاف على أطفالك من تسلط الشياطين عليهم وفزعهم من نومهم في الليل، وأنت تجلب لهم الشياطين لغرفهم، وتطرد عنهم ملائكة الرحمن التي تحميهم وتحفظهم؟ فتنبه يا أخي لهذه المسألة الخطيرة، فكلكم راعٍ وكلكم مسئولٌ عن رعيته[6] ولقد جاء النص الصريح منه صلى الله عليه وسلم بعدم دخول الملائكة البيت الذي يوجد فيه صور وتماثيل، ففي الحديث (لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب أو صورة)[7]، وفي رواية أخرى (لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب ولا تماثيل)[8]، وجاء في حديث آخر (واعَدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه الصلاة والسلام أن يأتيه، فراث عليه - أي تأخر عنه - حتى اشتدَّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج، فلقيه جبريل، فشكا إليه فقال: (إنا لا ندخل بيتًا فيه كلب ولا صورة)[9]، فقد كانت الصورة على ستارة في البيت، فانظر يا أخي راعيَ البيتِ المسلم هذه الأحاديث والنصوص الصريحة بعدم دخول الملائكة بيتًا فيه من تلك التصاوير، وهناك غيرها الكثير مما فيه الوعيد الشديد لمن يصور هذه الصور والتماثيل فتنبه واتعظ وكن من السابقين في فعل الخيرات، وعليك بإزالتها لتجلب ملائكة الرحمن إلى بيتك لتنعم وعائلتك بالأمن والسعادة والتحصين من الأعداء من الشياطين.
ثانيًا - عدم صلاة النافلة في البيت:
لقد حثنا صلى الله عليه وسلم على الصلاة في البيت (أقصد صلاة النافلة، فصلاة الفريضة يجب أن تكون جماعة في المساجد حيث ينادى بها، ولها أيضًا أثر كبير في الوقاية من تسليط الشياطين كما سيأتي في الفقرة التالية إن شاء الله تعالى).
لقد جاء في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم (عليكم بالصلاة في بيوتكم؛ فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة)[10]، فأرشد صلى الله عليه وسلم أن أفضل الصلاة بعد الفريضة هي صلاة الرجل في بيته، كما أرشد أيضًا إلى فضل تطوع الرجل في بيته؛ فقال: (تطوع الرجل في بيته يزيد على تطوعه عند الناس، كفضل صلاة الرجل في جماعة على صلاته وحده)[11] أي خمسًا وعشرين درجة كما جاء مصرحًا به في الحديث التالي: (صلاة الرجل تطوعًا حيث لا يراه الناس تعدل صلاته على أعين الناس خمسًا وعشرين)[12].
قال النووي - رحمه الله تعالى - في شرحه على مسلم بعد ذكره للحديث: (أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة) قال النووي: الصواب أن المراد النافلة، وجميع أحاديث الباب تقتضيه، ولا يجوز حمله على الفريضة، وإنما حثّ على النافلة في البيت لكونه أخفى وأبعد عن الرياء، وأَصْوَن من المحبطات، وليتبرك البيت بذلك وتنزل فيه الرحمة والملائكة وينفر منه الشيطان، كما جاء في الحديث الآخر، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم في الرواية الأخرى: (فإن الله جاعل في بيته من صلاته خيرًا). انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
ثالثًا - ترك صلاة الفريضة في المسجد:
لقد حثنا شرعنا الحنيف على صلاة الفريضة في المسجد، وفضلها على صلاة الرجل منفردًا وحده بخمس وعشرين درجة (صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته في بيته وصلاته في سوقه خمسًا وعشرين درجة)[13]، وجاء في رواية أخرى سبعًا وعشرين درجة، (صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة)[14].
إلى غير ذلك من الفضل الكبير، كما جاء في فضل الخطى إلى المساجد والوضوء وانتظار الصلاة بعد الصلاة والمشي في الظلمات وغيرها من الفضائل العظيمة، والذي نريده منها في هذا الموضوع هو فضلها في وقاية العبد من تسلط الشياطين عليه، لما ورد في الأحاديث من الدلالة على حفظ الله عز وجل لفاعلها ودخوله في رعايته وأمنه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (من صلى صلاة الصبح فهو في ذمة الله، فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء؛ فإنه من يطلبه من ذمته بشيء يدركه ثم يكبه على وجهه في نار جهنم)[15] وفي الحديث الآخر (من صلى الغداة كان في ذمة الله حتى يمسي)[16]، ولقد جاء في السنة ما يدل على أن تارك الجماعة معرض لاستحواذ الشياطين، بل شبه الشيطان بالذئب والتارك للجماعة بالغنم القاصية كما ذكره ابن القيم - رحمه الله تعالى - في كتابه (الصلاة وحكم تاركها) وهو يبسط الأدلة على وجوب الصلاة في جماعة، قال رحمه الله تعالى: (الدليل العاشر ما رواه أبو داود في سننه - رقم (547) - والإمام أحمد في مسنده - (5/196) - من حديث أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من ثلاثة في قرية لا يؤذّن ولا تُقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان، فعليك بالجماعة؛ فإنما يأكل الذئب القاصية)، فوجه الاستدلال منه أنه أخبر باستحواذ الشيطان عليهم بترك الجماعة التي شعارها الأذان وإقامة الصلاة، ولو كانت الجماعة ندبًا يخيّر الرجل بين فعلها وبين تركها لما استحوذ الشيطان على تاركها وتارك شعارها).
رابعًا - ترك قراءة القرآن في المنزل:
إنَّ من الأمور التي تعين الشياطين وتقويهم في تسلطهم على بني آدم تركَ قراءة القرآن وتعاهده، وترك تدبر معانيه، فإنك اليوم تدخل بيوت المسلمين فترى القرآن الكريم الذي أنزله الله عز وجل لعباده المؤمنين ليتَّبعوا ما فيه وليتدبروا آياته وليتخلقوا بأخلاقه كما أمرهم بقوله تعالى ذِكْره: ﴿ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ ﴾ [ص: 29]، تجد هذا الكتاب العظيم،كلام الله عز وجل معلقًا على الجدران، أو أنه وضع في علبة عليها نقوش وألوان وزخارف وموضوعة على الطاولة للزينة والمظهر الجميل، وإذا ركبت في سياراتهم تجده معلقًا فيها للبركة وللسلامة، أو منقوشة آياته على قطع من الذهب على صدور الأطفال حفظًا من العين كما يزعمون، وهذا كله من الأمور التي تخالف الحكمة في تنزيل القرآن، وتدخل ضمن هجر القرآن الذي ذكره الله عز وجل في كتابه وهجر العمل به كما قال تعالى: ﴿ وَقَالَ الرَّسُولُ يا ربِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا ﴾ [الفرقان: 30].
وإن من هجر القرآن الكريم كما ذكره العلامة ابن القيم في كتابه المفيد (الفوائد) بعد أن عدد أنواعًا من هجر القرآن قال - رحمه الله تعالى -: والخامس هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلب وأدوائها، فيطلب شفاء دائه من غيره، ويهجر التداوي به، وكل هذا داخل في قول الرسول: يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورًا. انتهى.
فصل - ومن الاستشفاء بالقرآن:
1 - قراءة سورة البقرة في البيت:
فإنها تطرد الشياطين من ذلك البيت ما دامت تقرأ فيه، وإن البيت الذي لا يقرأ فيه القرآن يكون كالمقبرة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا تجعلوا بيوتكم مقابر؛ إن الشيطان ينفر من البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة)[17]، ومن فوائد سورة البقرة أيضًا وبركة قراءتها في البيت أنها بإذن الله تعالى تطرد السحر وتمنعه وتبطل كيد السحرة والمشعوذين عن أهل ذلك البيت الذي تقرأ فيه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (اقرءوا سورة البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا تستطيعها البطلة)[18]، ويكفي قراءة سورة البقرة مرة في اليوم ولا بأس بالاستعانة بالوسائل الحديثة من مسجل وكمبيوتر لتسهيل ذلك أو حتى الجوالات، وهذا أمر ميسر والحمد لله، واستغلال هذه الوسائل وتسخيرها لطاعة الله عز وجل أمر محمود، بدلاً من وضع الأغاني والأفلام الهابطة فيها التي تزيد القلب قساوة وبعدًا عن الله والله أعلم.
2 - قراءة آية الكرسي: مرةً صباحًا ومرةً مساءً وبعد الفرائض وعند النوم:
فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: (وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام) فذكر الحديث وقال في آخره: (إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي فإنه لا يزال معك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (صدقك وهو كذوب؛ ذاك شيطان)[19].
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: لقي رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً من الجن فصارعه فصرعه الإنسي، فقال له الجني: عاودني، فعاوده فصرعه الإنسي، فقال له الإنسي: إني لأراك ضئيلاً شحيبًا كأن ذريعتيك ذريعتا كلب قال: فكذلك أنتم معاشر الجن - أو أنت منهم كذلك - قال: لا والله إني منهم لضليع، ولكن عاودني الثالثة فإن صرعتني علمتك شيئًا ينفعك، فعاوده فصرعه فقال: هات علمني قال: هل تقرأ آية الكرسي؟ قال نعم، قال إنك لن تقرأها في بيت إلا خرج منه الشيطان له خبج كخبج الحمار (أي ضراط) لا يدخله حتى يصبح.
قال رجل من القوم يا أبا عبد الرحمن من ذاك الرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال فعبس عبد الله وأقبل عليه وقال: من يكون هو إلا عمر رضي الله عنه [20].
3 - الآيتان من آخر سورة البقرة:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الآيتان من آخر سورة البقرة من قرأهما في ليلة كفتاه)[21].
قال النووي رحمه الله تعالى: (قيل معناه كفتاه من قيام الليل، وقيل من الشيطان، وقيل من الآفات، ويحتمل من الجميع) انتهى كلامه.
وفي الحديث الآخر عنه صلى الله عليه وسلم: (أعطيت هذه الآيات من آخر سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يعطَها نبي قبلي)[22].
4 - قراءة سورة الإخلاص والمعوذتين:
لقد جاء فيهم من الفضل الكثير: قال صلى الله عليه وسلم: (يا عقبة بن عامر ألا أعلمك سورًا ما أنزلت في التوراة ولا في الزبور ولا في الإنجيل ولا في الفرقان مثلهن، لا يأتين عليك ليلة إلا قرأتهن فيها، (قل هو الله أحد) و(قل أعوذ برب الفلق) و(قل أعوذ برب الناس)[23]، وفي رواية عند النسائي وغيره (فقرأت معه حتى خَتَمَها، ثم قال: ما تعوذ بمثلهن أحد)[24].
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ثم نفث فيهما وقرأ فيهما قل هو الله أحد وقل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس، ثم مسح بهما ما استطاع من جسده يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده يفعل ذلك ثلاث مرات)[25].
خامسًا - اقتناء الكلاب في البيوت للتربية:
ترى كثيرًا من بيوت المسلمين هذه الأيام - مع الأسف! - يقتنى فيها الكلاب بحجة أنها من الحيوانات الأليفة والوفية لصاحبها، وينفقون الأموال الكثيرة على إطعامها والعناية بها، حتى إنّ بعضها تستورد من الغرب ولا يدخل إلاّ بجواز سفر!!! وهذا كله تقليدًا للغرب من اليهود والنصارى ومن التشبه بهم، وكل هذا سببه الابتعاد عن الإسلام، وهذا من الأسباب التي تعين الشياطين في تسلطهم على بني آدم وخصوصًا ذلك البيت الذي يحوي ذلك الكلب، فإنه لا تدخله الملائكة بسبب وجوده فيه كما جاء في السنة الصحيحة عنه صلى الله عليه وسلم قال: (أتاني جبريل فقال: إني كنت أتيتك البارحة فلم يمنعني أن أكون دخلت عليك البيت الذي كنت فيه إلا أنه كان على الباب تماثيل وكان في البيت قرام ستر فيه تماثيل وكان في البيت كلب، فمُرْ برأس التمثال الذي في البيت فليقطع فيصير كهيئة الشجرة، ومر بالستر فليقطع فيجعل وسادتين منبذتين توطئان، ومر بالكلب فليخرج)[26] فهذا - إخواني وأحبابي - دليلٌ صريح على عدم دخول الملائكة بيتًا فيه كلب أو صورة، وجاء أيضًا في الترهيب من اقتناء الكلاب في البيوت لغير الزرع والماشية والصيد، الوعيد بنقصان الأجر كل يوم قيراطين لمقتني هذا الكلب لغير الأمور الثلاثة المذكورة آنفًا.
قال صلى الله عليه وسلم: (من اقتنى كلبًا ليس بكلب صيد، ولا ماشية، ولا أرض، فإنه ينقص من أجره قيراطان كل يوم)[27].
فانظر يا أخي هداني الله وإيّاك إلى هذه الخسارة الكبيرة في الدنيا والآخرة، فأجر ينقص كل يوم، وبيت لا تدخله الملائكة فهل من متعظ؟
سادسًا - ترك الأولاد يلعبون خارج البيت في الوقت الذي تنتشر فيه الشياطين:
ترى كثيرًا من الأولاد يخرجون من بيوتهم للعب خارج البيت ليختلطوا مع أصدقائهم وجيرانهم ممن هم غالبًا في سنّهم، وهذا لا بأس فيه إذا كان مضبوطًا بضوابط ومقيدًا بقيود سليمة، فيجب أن نكون منتبهين أشدَّ الانتباه إلى صحبة أبنائنا وبناتنا؛ فإن هذه الصحبة هي التي تحدد مستقبلهم وشخصيتهم، إن كانت هذه الصحبة صالحة وذات منشأ طيب فبها ونعمت، وإن كانت العكس فهذا أمر خطير يجب تداركه.
فإذا أرسلنا أولادنا وسمحنا لهم بالخروج من البيت للعب مع صحبتهم الصالحة ذات النشأة الطيبة فلنحذر من خروجهم في وقت نهى عنه الشرعُ الحكيم، وسبب نهيه هو انتشار الشياطين في ذلك الوقت خوفًا من تسلطهم على أبنائنا وإيذائهم لهم، فلقد حذرنا صلى الله عليه وسلم من هذا الأمر فقال: (لا ترسلوا فواشيكم وصبيانكم إذا غابت الشمس حتى تذهب فحمة العشاء فإن الشياطين تبعث إذا غابت الشمس حتى تذهب فحمة العشاء)[28]. قال ابن الجوزي: (إنما خيف على الصبيان في تلك الساعة لأن النجاسة التي تكون بها الشياطين موجودة معهم غالبًا، والذكر الذي يحرز منهم مفقود من الصبيان في ذلك الوقت، والحكمة في انتشارهم حينئذ أن حركتهم في الليل أمكن منها لهم في النهار؛ لأن الظلام أجمع للقوى الشيطانية من غيره وكذلك كل سواد، ولهذا قال في حديث أبي ذر (فما يقطع الصلاة؟ قال الكلب الأسود شيطان) أخرجه مسلم انتهى.
فينبغي حبس الأطفال عند غروب الشمس وعدم تعريضهم لتفلت الشياطين في هذا الوقت، والله الموفق.
سابعًا - عدم رقية الأولاد بالرقية الشرعية الواردة عنه صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة:
عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعوّذ الحسن والحسين: (أعيذكما بكلمات الله التامّة، من كل شيطان وهامّة، ومن كل عين لامّة، ثم يقول: كان أبوكم يعوّذ بهما إسماعيل وإسحاق)[29].
قوله: (كان أبوكم) يريد إبراهيم عليه السلام لكونه جدًّا أعلى.
قوله: (بكلمات الله التامّة) قيل المراد بها كلامه على الإطلاق، وقيل أقضيته، وقيل ما وعد به كما قال تعالى: ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ [الأعراف: 137]، والمراد بها قوله تعالى: ﴿ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ ﴾ [القصص: 5]، المراد بالتامّة الكاملة، وقيل النافعة، وقيل الشافية، وقيل المباركة، وقيل القاضية التي تمضي وتستمر ولا يردها شيء ولا يدخلها نقص ولا عيب.
قال الخطابي: كان أحمد يستدل بهذا الحديث على أن كلام الله غير مخلوق، ويحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يستعيذ بمخلوق.
قوله: (من كل شيطان) يدخل تحته شياطين الإنس والجن.
قوله: (وهامّة) بالتشديد واحدة الهوام ذوات السموم، وقيل كل ما له سم يقتل، فأمّا ما لا يقتل سمّه فيقال له السَّوام، وقيل المراد كل نسمة تهم بسوء.
قوله: (من كل عين لامّة) قال الخطابي: المراد به كل داء وآفة تُلِمُّ بالإنسان من جنون وخبل، وقال أبو عبيد: أصله من ألممت إلمامًا، وإنما قال (لامّة) لأنه أراد ذات لمم، وقال ابن الأنباري: يعني أنها تأتي في وقت بعد وقت، وقال (لامّة) ليؤاخي لفظ (هامّة) لكونه أخف على اللسان.
ثامنًا - عدم إغلاق الأبواب عند النوم وذكر اسم الله عليها وإطفاء المصابيح وعدم تخمير الآنية:
لقد أرشدنا صلى الله عليه وسلم إلى أمور قد يؤدي إهمالها إلى تسلط الشياطين وإيذائهم فقال: (إذا كان جنح الليل أو أمسيتم فكفوا صبيانكم فإن الشياطين تنتشر حينئذ، فإذا ذهب ساعة من الليل فخلّوهم فأغلقوا الأبواب واذكروا اسم الله فإن الشيطان لا يفتح بابًا مغلقًا، وأوكوا قربكم واذكروا اسم الله، وخمرّوا آنيتكم واذكروا اسم الله، ولو أن تعرُضوا عليها شيئًا، وأطفئوا مصابيحكم)[30]. وفي رواية أخرى عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: (خمروا الآنية، وأوكوا الأسقية، وأجيفوا الأبواب، واكفتوا صبيانكم عند العشاء؛ فإن للجن انتشارًا وخطفةً، وأطفئوا المصابيح عند الرقاد؛ فإن الفويسقة ربما اجتَّرت الفتيلة فأحرقت أهل البيت)[31] قال ابن جريج وحبيب عن عطاء: فإن للشياطين.
1 - إغلاق الأبواب:
قال ابن حجر في الفتح: قوله (وأغلقوا الأبواب) في رواية المستملي والسرخسي (وغَلِّقُوا) بتشديد اللام، وتقدم في الباب الذي قبله بلفظ (أجيفوا) بالجيم والفاء وهي بمعنى أغلقوا وتقدم شرحها في باب ذكر الجن وكذا بقية الحديث. قال ابن دقيق العيد: في الأمر بإغلاق الأبواب من المصالح الدينية والدنيوية حراسة الأنفس والأموال من أهل العبث والفساد ولا سيّما الشياطين، وأما قوله (فإن الشيطان لا يفتح بابًا مغلقًا) فإشارة إلى أن الأمر بالإغلاق لمصلحة إبعاد الشيطان عن الاختلاط بالإنسان، وخصَّهُ بالتعليل تنبيهًا على ما يخفى مما لا يطلّعُ عليه إلاّ مِن جانِبِ النبوة، قال: واللام في الشيطان للجنس إذ ليس المراد فردًا بعينه. وقال ابن دقيق العيد في شرح الإمام: ويحتمل أن يؤخذ قوله: (فإن الشيطان لا يفتح بابًا مغلقًا) على عمومه ويحتمل أن يخصُّ بما ذكر اسم الله عليه، ويحتمل أن يكون المنع لأمر يتعلق بجسمه، ويحتمل أن يكون لمانع من الله بأمر خارج عن جسمه، قال: والحديث يدل على منع دخول الشيطان الخارج، فأما الشيطان الذي كان داخلاً فلا يدل الخبر على خروجه، قال فيكون ذلك لتخفيف المفسدة لا لرفعها، ويحتمل أن تكون التسمية عند الإغلاق تقتضي طرد من في البيت من الشياطين، وعلى هذا فينبغي أن تكون التسمية من ابتداء الإغلاق إلى تمامه، واستنبط منه بعضهم مشروعية غلق الفم عند التثاؤب لدخوله في عموم الأبواب مجازًا. انتهى.
2 - إكفاء الآنية أو تخميرها وذكر اسم الله عليها:
عن جابر رضي الله تعالى عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (غطوا الإناء وأوكوا السقاء؛ فإن في السنة ليلة ينزل فيها وباء لا يَمُرُّ بإناء ليس عليه غطاء، أو سقاء ليس عليه وكاء إلا نزل فيه من ذلك الوباء)[32].
قال النووي رحمه الله تعالى: قوله صلى الله عليه وسلم (فإن في السنة ليلة ينزل فيها وباء) وفي الراوية الأخرى (يومًا) بدل (ليلة)، قال الليث: فالأعاجم عندنا يتقون ذلك في كانون الأول.
(الوباء) يمدّ ويقصر، لغتان حكاهما الجوهري وغيره، القصر أشهر، قال الجوهري: جمع المقصور: أوباء، وجمع الممدود أوبية، قالوا: والوباء مرض عام يفضي إلى الموت غالبًا).
وجاء في الحديث عن أبي حُميَد الساعدي رضي الله تعالى عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بقدح من لبن من النقيع ليس مخمرًا فقال: (ألا خمرته ولو تعرُضُ عليه عودًا)، قال أبو حميد: إنما أمر بالأسقية أن توكأ ليلاً، وبالأبواب أن تغلق ليلاً[33].
قال النووي: قوله (أبو حميد) وهو الساعدي راوي هذا الحديث: (إنما أمر بالأسقية أن توكأ ليلاً وبالأبواب أن تغلق ليلاً) هذا الذي قال أبو حميد من تخصيصهما بالليل، ليس في اللفظ ما يدل عليه، والمختار عند الأكثرين من الأصوليين وهو مذهب الشافعي وغيره - رضي الله عنهم - أن تفسير الصحابي إذا كان خلافَ ظاهر اللفظ ليس بحجة، ولا يلزم غيرَه من المجتهدين موافقتُه على تفسيره، وأما إذا لم يكن في ظاهر الحديث ما يخالفُه بأن كان مجملاً فيرجع إلى تأويله، ويجب الحملُ عليه؛ لأنه إذا كان مجملاً لا يحلّ له حملُه على شيء إلا بتوقيف، وكذا لا يجوز تخصيصُ العموم بمذهب الراوي عند الشافعي والأكثرين، والأمرُ بتغطية الإناء عام فلا يقبل تخصيصه بمذهب الراوي، بل يتمسك بالعموم.
وقال في فيض القدير: (وأوكئوا قربكم) سدوا أفواهها بنحو خيط، (واذكروا اسم الله) على ذلك؛ فإنه السور العظيم والحجاب المنيع الدافع للشيطان والوباء والحشرات والهوام، والأولى أن يقال ما ورد: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء، و(خمروا) غطوا (آنيتكم) جمع قلّة وجمع الكثرة (أواني)، (واذكروا اسم الله) عليها؛ فإنه السور العظيم والحجاب المنيع بين الشيطان والإنسان، ولو شاء ربك لكان الغطاء كافيًا أو ذكر اسم الله كافيًا، لكنه قرن بينهما ليُعلم كيفية فعل الأسباب في دارها، وليبين أنها إنما تفعل بذكر الله عليها لا بذاتها (ولو أن تعرضوا) بفتح أوله وضم الراء وكسرها، والأول كما قاله العيني أصح، والمذكور بعد (لو) فاعل مقدر، أي ولو ثبت أن تعرضوا أي تضعوا (عليه) الإناء (شيئًا) أي على رأسه. قال الطيبي: جواب (لو) محذوف أي لو خمرتموها عرضًا بشيء كعود وذكرتم اسم الله عليه كان كافيًا، والمقصود أن يجعل نحو عود على عرضه، فإن كان مستدير الفم فهو كله عرض وإن كان مربعًا فقد يكون له عرض وطول فيجعله عليه عرضًا لا طولاً، والمراد وإن لم يغطه فلا أقل من ذلك أو إن فقدتم ما يغطيه فافعلوا المقدور ولو أن تجعل عليه عودًا بالعرض، وقيل المعنى: اجعلوا بين الشيطان وبين آنيتكم حاجزًا، ولو من علامة تدل على القصد إليه، وإن لم يتول الستر عليه، فإنها كافية مع ذكره عاصمة بقضاء الله وأمره، وقد عمل بعضهم بالسنة فأصبح والأفعى ملتفة على العود انتهى[34].
وفي المنتقى شرح الموطأ: وقوله صلى الله عليه وسلم: (وأوكئوا السقاء) اربطوه، وقوله صلى الله عليه وسلم: (وأكفئوا الإناء) معناه اقلبوه، وقوله صلى الله عليه وسلم: (أو خمروا الإناء) يحتمل أن يكون شكًا من الراوي، والأظهر أنه لفظ النبي صلى الله عليه وسلم وأن معناه أكفئوه إن كان فارغًا، أو خمروه إن كان فيه شيء؛ فإن ذلك يمنع الشيطان أن يتناول شيئًا مما في المملوء أو يتبع شيئًا مما في الفارغ من بقية أو رائحة، وقد روي عن جابر بن عبد الله: جاء رجل يقال له أبو حميد بقدح من لبن من البقيع، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا خمّرته ولو أن تعرض عليه عودًا، وروى القعقاع بن حكيم عن جابر هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: غطوا الإناء فإن في السنة ليلةً ينزل فيها وباءٌ لا يمر بإناء ليس عليه غطاء، أو سقاء ليس عليه وكاء إلا نزل به من ذلك الوباء، قال الليث: والأعاجم عندنا يتقون ذلك في كانون الأول. انتهى[35].
3 - إطفاء المصابيح عند النوم:
جاء الأمر منه صلى الله عليه وسلم بإطفاء المصابيح عند النوم؛ فقال: (وأطفئوا مصابيحكم)[36]، وفي رواية (إذا نمتم فأطفئوا سُرُجكم)[37]، وإذا قال قائل ما عَلاقةُ إطفاء المصابيح والسرج بتسلط الشياطين؟ فنجيب عن هذا بتعليله صلى الله عليه وسلم عندما أمر أهلَ بيتٍ كان عندهم بإطفاء السراج؛ فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: جاءت فأرةٌ فأخذت تجر الفتيلة فجاءت بها فألقتها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخمرة التي كان قاعدًا عليها، فأحرقت منها مثل موضع الدرهم فقال: (إذا نمتم فأطفئوا سرجكم؛ فإن الشيطان يدل مثل هذه على هذا فتحرقكم)[38]، فهذا تعليل واضح منه صلى الله عليه وسلم لحكمة إطفاء المصابيح والسرج عند النوم، لحماية بيوت المسلمين من احتراقها بالنار، وهناك كلام لأهل العلم يجب ذكرُه ولا يسعنا إهمالُه فيما يخصُّ أنواع المصابيح التي جاء الأمر بإطفائها قبل النوم أو عنده:
قال النووي رحمه الله تعالى: هذا عام يدخل فيه نار السراج وغيره، وأما القناديل المعلقة فإن خيف بسببها حريق دخلت في ذلك، وإن حصل الأمنُ منها كما هو الغالب فلا بأس بها لانتفاء العلّة.
وقال ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى: إذا كانت العلّة من إطفاء السراج الحذر من جر الفويسقة الفتيلة فمقتضاه أن السراج إذا كان على هيئة لا تصل إليها الفأرة لا يمنع إيقاده، كما لو كان على منارة من نحاس أملس لا يمكن للفأرة الصعود إليه، أو يكون مكانه بعيدًا عن موضع يمكنها أن تثب منه إلى السراج، قال: وأما ورود إطفاء النار مطلقًا كما في حديثي ابن عمر وأبي موسى وهو أعم من نار السراج - فقد يتطرق منه مفسدةٌ أخرى غير جر الفتيلة؛ كسقوط شيء من السراج على بعض متاع البيت، وكسقوط المنارة فينتشر السراج إلى شيء من المتاع فيحرقه، فيحتاج إلى الاستيثاق من ذلك، فإذا استوثق بحيث يؤمن الإحراق فيزول الحكم بزوال علته. انتهى.
قلت: وهذه الأشياء التي فيها نار، يدخل فيها ما هو موجود في عصرنا من أسطوانات للغاز، والمجمرة التي تستعمل للبخور، وآلات كي الملابس، والسخانات الحرارية، والمدافئ التي تستعمل في الشتاء، ومنها ما يشتعل بالوقود (الديزل) في بعض الدول، ومنها توقد بالخشب ومنها كهربائية، وكل شيء يدخل في هذا الباب فيجبُ إطفاؤه قبل النوم تجنبًا للحرائق.
قال الطبري - رحمه الله تعالى -: في هذا الحديث الإبانة على أن من الحق على من أراد المبيت في بيت ليس فيه غيره وفيه نار أو مصباح ألا يبيت حتى يطفئه أو يحرزه بما يأمن به إحراقه وضره، وكذلك إن كان في البيت جماعة، فالحق عليهم إذا أرادوا النوم ألا ينام آخرُهم حتى يفعل ما ذكرت؛ لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فإن فرط في ذلك مفرط فلحقه ضرر في نفس أو مال، كان لوصية النبي لأمته مخالفًا ولأدبه تاركًا. انتهى[39]. والله تعالى أعلم وأحكم.