لما خلق الله - تعالى - نبيه آدم - صلى الله عليه وسلم -، أمر الملائكة بالسجود له فسجدوا، إلا إبليس كان من الجن، ففسق عن أمر ربه، وأبى واستكبر وكان من الكافرين قال الله - عز وجل -: (قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ * قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ * قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ * قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ * قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ)[ص:75-85].
فكانت الشياطين أهلاً للعداوة قال الله - عز وجل -: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ)[فاطر:6]، ولا يكاد يخفى على إنسان أن الشيطان عدو، لكن من يتخذه عدواً من الناس قليل جداً، ولن يستطيع الإنسان أن يتخذ الشيطان عدواً حتى يعرف مداخله على الناس، وطرقه، وأساليبه في إغوائهم عن الحق، وإيقاعهم في الباطل، وحتى يعرف أبواب النجاة ووسائلها، وهذا ما سيتم شرحه في هذا الموضوع وبالله التوفيق.
مراحل الشيطان في إغواء الإنسان:
يحاول الشيطان في كل مجال أن يخرج الإنسان من دينه، فإن عجز عنه في بعض المجالات أوقعه فيما يعرضه للإثم والعقوبة، أو ينقص ثوابه، أو يشغله عن الخير، عبر سبعة مراحل:
1- مرحلة الكفر بالله - تعالى - ليحشره معه في السعير.
2- مرحلة البدعة، وهي أحب إلى إبليس من المعصية، لأن فاعلها لا يرى أنه مخطئ، فلا يتوب منها غالباً، ولأنها زيادة خطيرة في الدين، أو تحريف فيه.
3- مرحلة الكبائر قال - تعالى -: (إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيماً)[النساء:31].
4- مرحلة الصغائر، والإنسان ربما احتقرها فتجتمع عليه حتى تهلكه.
5- مرحلة المباحات، فيشغله بها عن الاستكثار من الطاعات، والتزود للآخرة، والاشتغال بها من أسباب حب الدنيا، والوقوع في المعصية.
6- مرحلة الأعمال المرجوحة المفضولة، فيشغله بالمفضول عن الفاضل، وبالمرجوح عن الراجح، ليقل أجره، وتنقص حسناته.
7- مرحلة تسليط الشيطان جنده عليه بالأذى(1).
وكيد الشيطان لا يقف عند إيقاعه في شيء من هذه المراحل، بل إنه قد يوقع المرء في البدعة كبدعة الموالد، والأعياد البدعية، ويوقعه في بدع أخرى، أو كبائر في جانب آخر، مثل: تأخير الصلاة عن وقتها، أو عدم إتمام الطهارة، كما يتسلط على قلبه ليوقعه في الحسد، أو الرياء، أو ضعف محبة الله ورجائه، والتوكل عليه، ويتسلط على لسانه ليوقعه في الكذب، فإن عجز أوقعه في كثرة الكلام فيما لا يعنيه ليتوصل به إلى الغيبة والنميمة، ثم إلى ما هو أشد منها وهكذا.
مداخل الشيطان على الناس:
يستخدم الشيطان في مراحل إغوائه الإنسان كل وسيلة، ويدخل عليهم من مداخل شتى يغفل عنها كثير من الناس، فيقعون فيها وهم لا يشعرون، فلقد أزل أبانا آدم وأمنا حواء (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ)[البقرة:36]، وأزل بعض الناس ببعض ما كسبوا ففروا من الزحف (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ)[آل عمران:155].
ومن أنفع الطرق لسد منافذ دخول الشيطان: معرفتها، والعمل بالوسائل التي تغلقها، ومن أهم مداخل الشيطان:
1- التزيين والخداع:
ففي قصة آدم أخذ الشيطان يزين له المعصية: (قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى)[طه:120]، (وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ)[الأعراف:20].
وفي معركة بدر زين الشيطان للمشركين أعمالهم: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ * وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ)[الأنفال:47-48].
والتزيين الشيطاني مخدر، لأنه مغطى بستار من النصح والشفقة والحب، لقد أقسم لآدم وزوجه أنه ناصح أمين (وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ)[الأعراف:21].
ولقد زين لعاد وثمود أعمالهم: (وَعَاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمَ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ)[العنكبوت:38].
وكذلك زين لقوم سبأ: (وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ)[النمل:24].
قال الله - تعالى -: (تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ([النحل:63]، وقال - سبحانه -: (قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)[الحجر:39-40](2)، وقال الله - تعالى -: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُون * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الأنعام:42-45]، وقال الله - عز وجل - عن الشيطان: (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً)[النساء:120].
وبين ابن القيم أن وعده: "ما يصل إلى قلب الإنسان نحو: سيطول عمرك، وتنال من الدنيا لذتك، وستعلو على أقرانك، وتظفر بأعدائك، والدنيا دول ستكون لك كما كانت لغيرك، ويطول أمله، ويعده بالحسنى على شركه ومعاصيه، ويمنيه الأماني الكاذبة على اختلاف وجوهها، والفرق بين وعده وتمنيته أنه يعد الباطل، ويمني المحال، والنفس المهينة التي لا قدر لها تغتذي بوعده وتمنيته، كما قال القائل:
منى إن تكن حقاً تكن أحسن المنى وإلا فقد عشنا بها زمناً رغداً
فالنفس المبطلة الخسيسة تلتذ بالأماني الباطلة، والوعود الكاذبة، وتفرح بها"(3) وذكر - رحمه الله - أن الأقوال "الباطلة مصدرها وعد الشيطان وتمنيته، فإن الشيطان يمني أصحابها الظفر بالحق وإدراكه، ويعدهم الوصول إليه من غير طريقه، فكل مبطل له نصيب من قوله: (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً)[النساء:120]"(4).
وذكر الشيخ السعدي في تفسير الآية أن "الوعد يشمل حتى الوعيد كما قال - تعالى -: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)[البقرة:268] فإنه يعدهم إذا أنفقوا في سبيل الله افتقروا، ويخوفهم إذا جاهدوا بالقتل وغيره كما قال - تعالى -: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)[آل عمران:175]، ويخوفهم عند إيثار مرضاة الله، بكل ما يمكن وما لا يمكن مما يدخله في عقولهم حتى يكسلوا عن فعل الخير"(5).
2- التسويف والتأجيل:
ولا يكون ذلك إلا بأن يقنع الشيطان الإنسان بأن عمره طويل، ولديه فرصة للتوبة والعمل الصالح، فإذا أراد أن يصلي قال له: ما زلت صغير السن، تصلي إذا كبرت، وإذا أراد المزارع أن يزكي قال له: هذا أول موسم لك، انتظر إلى العام القادم، وإذا أراد الإنسان أن يقرأ القرآن قال له: تقرأ في المساء، وفي المساء يقول له: تقرأ غداً، وغداً يقول له: تقرأ بعد غدٍ .. وهكذا حتى يموت العاصي على معصيته، وبهذه الطريقة هو يصد بعض الكفار عن الإسلام أيضاً قال - تعالى -: (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُم)[محمد:25] فقيل: إن المعنى أن الشيطان مد لهم في الأمل، ووعدهم طول العمر، وقيل غير ذلك، "وقال بعض السلف: أنذركم سوف فإنها أكبر جنود إبليس"(6)، وبهذا الأسلوب نفسه يتعامل الشيطان مع المطيعين إذا أرادوا فعل الطاعات عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب كل عقدة: عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقدة، فأصبح نشيطاً، طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس، كسلان))(7).
ولذلك حثنا الحبيب - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث على المبادرة إلى الاستيقاظ، والمسارعة إلى الذكر والوضوء إلى الصلاة.
وما أجمل حال ذينك الرجلين اللذين وصفها النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: ((عجب ربنا - عز وجل - من رجلين: رجل ثار عن وطائه ولحافه، من بين أهله وحيه إلى صلاته، فيقول ربنا: أيا ملائكتي انظروا إلى عبدي، ثار من فراشه ووطائه، ومن بين حيه وأهله إلى صلاته، رغبة فيما عندي، وشفقة مما عندي. ورجل غزا في سبيل الله عز وجل...)) الحديث(
.
وهذه هي حقيقة المسارعة إلى الطاعات، والمبادرة التي أمر الله بها في قوله - تعالى -: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين)[آل عمران:133]، قال - تعالى -: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)[الحديد:21].
ومن خير ما يقطع التسويف والتأجيل: تذكر الموت، واستشعار قربه؛ لأن الإنسان قد يكون الموت أسرع إليه من تفكير في أمر، أو شربة ماء، أو رجوع نفس.
ومن أحسن الأدوية: أن يسارع إلى العمل، ويؤديه كأنه آخر عمل في حياته، ولذلك أوصى النبي - صلى الله عليه وسلم - بعض صحابته فقال: ((إذا قمت في صلاتك فصل صلاة مودع…))(9).
3. الوسوسة والتشكيك:
يحاول الشيطان أن يصرف الإنسان عن الطاعة والعبادة، فإذا رأى حرصه حاول أن يدخل عليه من باب الحرص، بحيث يجعله يتشدد في تطبيقها، ويوقعه مع ذلك في الإثم أحياناً، وفي فوات خير أحياناً أخرى كمن يتشدد في صفة الاستنجاء والوضوء، ويكرر غسل الأعضاء أكثر من ثلاث مرات، ويدلك بشدة، حتى يتأخر عن الصلاة أحياناً بسبب ذلك، أو يكرر قراءة الفاتحة، أو التكبير والأذكار في الصلاة حتى يتأخر عن متابعة الإمام، ثم يترك صلاة الجماعة بسبب ذلك، أو يوسوس ويتشكك في نيته للطهارة والصلاة، فيعيد الصلاة أو الوضوء حتى تصير الصلاة ثقيلة عليه حتى يتركها - والعياذ بالله -، وهكذا يهلك المتشددون، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((هلك المتنطعون)) قالها ثلاثاً(10).
وطريق الخلاص:
أن يعرف المسلم هذا المدخل الشيطاني، وأن هذه الأفعال لا تجوز شرعاً فقد قال - صلى الله عليه وسلم - فيمن زاد على ثلاث غسلات في الوضوء: ((فمن زاد فقد أساء، وتعدى، وظلم))(11) فيصيبه الوزر والذم من حيث أراد الأجر.
نعم قد يحصل للإنسان سهو في عبادته أو نسيان؛ لكن لا يجوز الاهتمام بهذا إذا كان مجرد وهم، أو يتكرر مع صاحبه، أو يحصل له بعد العبادة، لكن لو شك شكاً قوياً أسجد سجدتين أم واحدة؟ فإن ترجح عنده شيء اعتد به، وإن لم يترجح شيء عمل باليقين وهو سجدة، فيسجد ثانية، ويسجد للسهو سجدتين، ويكفيه هذا جبراً لصلاته، وترغيماً للشيطان - كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم -(12).
ويكفي الموسوس أن يتعلم كيف كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ، وكيف يغتسل، وكيف يعبد ربه؟ فقد كان - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ بالمد وهو ملء كفي الرجل المعتدل، ويغتسل بالصاع وهو أربعة أمداد، والفقهاء وأهل العلم يسهلون في الأمور التي يصعب على الإنسان أن يتحرز منها، مثل: طين الشوارع الذي قد يكون فيه نجاسة لا يجب غسل الثوب منه، ومثل الماء النازل من أسطح البيوت إذا لم نعلم جزماً أنه نجس.
فشريعة الإسلام شريعة التيسير، ورفع الحرج (يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)[البقرة:185]، (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)[الحج:78].
وأخطر الوسوسة والشك ما كان في باب العقيدة، فليحذر أشد الحذر من ذلك؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا، حتى يقول: من خلق ربك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته))(13).
وهذه الخواطر يكاد لا يسلم منها أحد، وقد وقع شيء من هذه الخواطر للصحابة - رضي الله عنهم - فخافوا أشد الخوف، ولم يتكلموا بشيء منها، وشكوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائلين: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قال: ((وقد وجدتموه؟)) قالوا: نعم، قال: ((ذاك صريح الإيمان))(14)، وفي رواية قال: ((الله أكبر، الحمد الله الذي رد أمره إلى الوسوسة))(15).
فهذه الوسوسة إذا عرضت للإنسان ولم يتكلم بها؛ فهذا دليل عجز الشيطان وضعفه عن فعل شيء أكبر منها، فإذا حاول الإنسان دفعها بالاستعاذة بالله، وتعلم العلم، والسؤال عن المشكل، وتجديد الإيمان، واليقين بالله - تعالى -، ودعائه والإلحاح عليه أن يحفظه منها .. لم تضره، بل كانت سبباً في زيادة إيمانه وثوابه، فالحمد لله، والله أكبر.
4- الإنساء:
بأن ينسي الإنسان الخير، ويذكره عمل الشر، أو ينسيه الأمور المهمة، ويذكره الأمور التافهة، لكي يهتم بها ويعملها، وإنما يقع هذا كثيراً لمن يستجيبون لخطوات الشيطان ويطيعونه أكثر قال - تعالى -: (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ)[المجادلة:19].
وعلاج هذا أن يكثر المرء من ذكر الله - تعالى -، ويسارع إلى التوبة من ذنوبه، ويسارع إلى الخيرات، ويحذر من السيئات قال الله - تعالى -: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي ءَايَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)[الأنعام:68].
5- التخويف:
فالشيطان يخوف المؤمن من جنده وحزبه الكفرة والمفسدين، ويحذرهم من قوتهم وشدتهم، حتى يطيعهم، ويترك ما يكرهون من العبادة والطاعات، ولذا حذر الله من ذلك فقال: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)[آل عمران:175]، وهذا التخويف يكون بإثارة الأفكار المزعجة، والمنامات المخيفة قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((الرؤيا الصالحة من الله، والحلم من الشيطان، فإذا حلم أحدكم حلماً يخافه فليبصق عن يساره، وليتعوذ بالله من شرها فإنها لا تضره))(16).
6- التحزين:
يسعى الشيطان جاهداً ليوقع ابن آدم فيما يضره، ويعميه حينئذٍ عن آثار ذلك العمل حتى يعمله، فإذا وقع فيه تخلى عنه، فانكشفت له نتائج عمله، فتحملها وحده، وتبرأ منه الشيطان: (كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ)[الحشر:16-17].
وقد يقع هذا في كثير من تصرفات الإنسان كما وقع للمقداد - رضي الله عنه - مرة أن شرب اللبن كله ظناً منه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سيشرب ويأكل عند الأنصار، ثم ندم مباشرة(17).
والمؤمن كيس فطن عاقل يحذر كيد الشيطان، فإذا أوقعه مرة حذر منه بعدها، ولذا قال المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين))(18)، وخوفاً من تحزين الشيطان؛ نهي الإنسان أن يتناجى مع أخيه سراً إذا كان معهما ثالث لئلا يحزن: ((إذا كانوا ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون ثالث فإن ذلك يحزنه))(19).
كما يحاول الشيطان أن يدفع الكفرة والفسقة لأفعال تحزن المؤمنين مثل: أن يتناجوا بالمكر بالمؤمنين ليحزن المؤمنون: (إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)[المجادلة:10].
فعلى الإنسان أن يتنبه لهذا الكيد، وأن يحذر مما يحزن إخوانه المسلمين، وأن يعلم أن هذا الحزن إذا وقع له فصبر عليه، واحتسب؛ فهو مأجور عليه، وأهم شيء هنا: أن لا يجعل الحزن سبباً لليأس، وترك العمل لدينه ودنياه، وأن لا يكثر التحسر على ما فات من الدنيا، وأن يتوب لما فاته من الدين، وأن يعد ما حدث تربية له سيستفيد منها في مستقبل حياته؛ لئلا يكرر الخطأ نفسه مرة أخرى.
وما أجمل التوجيه النبوي إلى ذلك: ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان))(20).
7- فتن الشهوات:
وهي كثيرة أشدها: شهوة المال، والجاه، والنساء.
فأما المال والجاه فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على الشرف، والمال؛ لدينه))(21)، ولا ينجي منه إلا الحرص على كسب المال من طرقه المشروعة بجهد متوسط بلا كسل ولا انشغال عن الواجبات الأخرى، والحرص على أداء حقوقه من زكاة وغيرها، الإنفاق منه باعتدال بلا سرف، ولا بخل في حاجاته، وأغراضه المشروعة.
وأما النساء فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء))(22)، ولذا كثرت احتياطات الشريعة في سد ذرائع هذه الفتنة، فأمرت بغض البصر، ونهت عن الخلوة والاختلاط، وتبرج النساء، وإبداء زينتهن …، ومن ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان))(23)، وعن عبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان))(24).
وذكر المباركفوري أن معنى استشرفها "زينها في نظر الرجال، أو نظر إليها ليغويها ويغوي بها"(25).
8. التحريش بين المسلمين، ودفعهم لإساءة الظن بإخوانهم:
قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم))(26)، "ومعناه: أيس أن يعبده أهل جزيرة العرب، ولكنه سعى في التحريش بينهم بالخصومات والشحناء، والحروب والفتن ونحوها"(27)، ومن أمثلة التحريش ما ورد في بعض الأحاديث:
- عن سليمان بن صرد قال: "كنت جالساً مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ورجلان يستبان، فأحدهما احمرّ وجهه، وانتفخت أوداجه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إني لأعلم كلمة لو قالها ذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان ذهب عنه ما يجد))، فقالوا له: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: تعوذ بالله من الشيطان، فقال: ((وهل بي جنون؟))(28) ذكر النووي أن "الحديث فيه أن الغضب في غير الله - تعالى - من نزغ الشيطان"(29).
- وقد خشي النبي - صلى الله عليه وسلم - في ليلة أن يقذف الشيطان في قلبي اثنين من الصحابة - رضي الله عنهم - شيئاً، فعن علي بن الحسين: أن صفية بنت حيي زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبرته: أنها جاءت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تزوره وهو معتكف في المسجد في العشر الغوابر من رمضان، فتحدثت عنده ساعة من العشاء، ثم قامت تنقلب فقام معها النبي - صلى الله عليه وسلم - يقلبها، حتى إذا بلغت باب المسجد الذي عند مسكن أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - مر بهما رجلان من الأنصار، فسلما على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم نفذا، فقال لهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((على رسلكما إنما هي صفية بنت حيي))، قالا: سبحان الله يا رسول الله، وكَبُر عليهما ما قال، قال: ((إن الشيطان يجري من ابن آدم مبلغ الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما))(30).
ذكر ابن حجر - رحمه الله - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينسبهما إلى أنهما يظنان به سوءاً لما تقرر عنده من صدق إيمانهما، ولكن خشي عليهما أن يوسوس لهما الشيطان ذلك، لأنهما غير معصومين فقد يفضي بهما ذلك إلى الهلاك، فبادر إلى إعلامهما حسماً للمادة، وتعليماً لمن بعدهما إذا وقع له مثل ذلك"(31)، وفي الحديث "التحرز من التعرض لسوء الظن"(32).
- عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن إبليس يضع عرشه على الماء، ثم يبعث سراياه، فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة، يجيء أحدهم فيقول: فعلت كذا وكذا، فيقول: ما صنعت شيئاً، قال: ثم يجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته، قال: فيدنيه منه ويقول: نعم أنت)) قال الأعمش: أراه قال: ((فيلتزمه))(33).
- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يشير أحدكم على أخيه بالسلاح، فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزع في يده فيقع في حفرة من النار))(34).
- حدثت عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج من عندها ليلاً، قالت: فغرت عليه، فجاء فرأى ما أصنع، فقال: ((ما لك يا عائشة؟ أَغِرْتِ؟)) فقلت: "وما لي لا يغار مثلي على مثلك؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أقد جاءك شيطانك؟)) قالت: يا رسول الله أو معي شيطان؟ قال: ((نعم))، قلت: ومع كل إنسان؟ قال: ((نعم))، قلت: ومعك يا رسول الله؟ قال: ((نعم، ولكن ربي أعانني عليه حتى أسلم))(35).
9- محاولة إفساد العبادات أو إنقاصها:
مثل: إفساد الصلاة بالالتفات والوسوسة فيها فعن عائشة قالت: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الالتفات في الصلاة فقال: ((هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد))(36)، وعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين، فإذا قضى النداء أقبل، حتى إذا ثوب بالصلاة أدبر، حتى إذا قضى التثويب أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه، يقول: اذكر كذا، اذكر كذا، لما لم يكن يذكر، حتى يظل الرجل لا يدري كم صلى؟))(37).
10- الإيحاء إلى أوليائه من أهل الكفر والفسوق:
بالأقوال الفاسدة، والأفكار الرديئة، والأعمال الخاطئة التي يحاولون بها ثني عزيمة المؤمن عن الطاعة، وتشكيكه في وعده وأحكامه وشرعه، وتحبيبه في الشر، وتبغيضه في الخير قال الله - تعالى -: (وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ)[الأنعام:121]، وقال رب العالمين - عز وجل -: (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً)[مريم:83]، "إذا تمكن الشيطان من قلب الإنسان فإنه يزعجه إلى المعاصي إزعاجاً، ويسوقه إلى الرذيلة هائجاً، كلما انتهى من المعصية عاد إليها، فنفسه لم تشبع من الإثم والعدوان، وهذا من العذاب الأصغر في الدنيا، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى"(38).
11- التدرج في نقل الإنسان من مرحلة إلى مرحلة:
يطمع الشيطان أن ينقل أصلح الناس إلى الكفر مرة واحدة، لكن ذلك ليس بالأمر السهل، ولذا فهو ينتقل به خطوة خطوة، ويستخدم في ذلك طرائق عدة، ففي أمور الخير والعبادة يستخدم معه: تصعيب العبادة، وتنفيره منها لكي يكسل عنها المرء، ولذا أمرنا بالاستعاذة من الكسل كل صباح: "أصبحنا وأصبح الملك لله …… رب أعوذ بك من الكسل …"، فإذا تكاسل عنها تركها، أو أجلها، وسوف في فعلها، وعرفنا خطورة التأجيل.
وفي أمور الشر والمعصية يسعى إلى تزينها، وتحبيبها إلى نفسه، ويهونها عليه حتى لا يدرك أخطارها، فإذا امتنع منها خلطها له بالحق، ولبس عليه الأمر، وأوجد له المبررات لكي يقارفها أول مرة، فتهون عليه في المرات القادمة، فإذا أراد المراجعة والتوبة قال له: أنت لم تفعل شيئاً، أو ما زلت شاباً، لكي يأمن من مكر الله، فإذا أصر على التوبة قال له: أنت فعلت وفعلت، ويذكره ذنوبه، حتى ييأس من رحمة الله - تعالى -.
وليس ينفع المرء إلا أن يحذر دوماً من الخطوة الأولى للشيطان، والتي قد تكون كلمة تسمعها من إنسان يسهل عليك معصية، أو يزهدك في طاعة .. يقول ربنا - عز وجل -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)[النور:21]، ولن يكون ذلك إلا بمعرفة الخطوات والمداخل، والجد والعزم في تركها، والإقلاع عنها إذا وقع فيها، فالرجوع دوماً من أول الطريق أسهل مما بعده.
سبيل النجاة من مداخل الشيطان:
لكل مدخل شيطاني ما يناسبه من العلاج والدواء الذي ينجي منه - بإذن الله تعالى -، وقد تقدم بعض ذلك.
وهناك سبل عامة نافعة للنجاة من كيد الشيطان كله، ومنها:
أولاً: تقوى الله - تعالى - وطاعته، والحذر من معصيته:
وهي حماية تدفع الكيد من أصله، فإذا وقع في حالة ضعف من الإنسان فإن المبادرة إلى التقوى بالتوبة إلى الله، والإنابة، والرجوع عن الذنب هو الذي يرفع آثار كيد الشيطان ومكره، وقد اعترف الشيطان بضعفه وعجزه عن مس المخلصين في عبادة الله بأذى قال - سبحانه وتعالى - حكاية عن إبليس: (قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)[الحجر:39-40]، وقال الله - جل ثناؤه - حكاية عنه أيضاً: (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)[ص:82-83].
فمن وقع له شيء من غواية الشيطان فإن الله بيَّن له أن تقواه ومراقبته وخشيته تصل القلوب به - سبحانه -، وتوقظها من الغفلة عن هداه، وتذكر المتقين، فإذا تذكروا تفتحت بصائرهم، وانقشعت الغشاوة عن أبصارهم فإذا هم مبصرون، قال - تعالى -: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ)[الأعراف:201].
ثانياً: الحرص على الجماعة:
حرص الإسلام على الجماعة لأنها منفرة للشيطان، فقامت كثير من عبادات الإسلام ومعاملاته على هذا الأساس، ومما يبين أثرها في الحماية من الكيد الشيطاني:
1- صلاة الجماعة: قال - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من ثلاثة في قرية، ولا بدو؛ لا تقام فيهم الصلاة، إلا قد استحوذ عليهم الشيطان، فعليك بالجماعة، فإنما يأكل الذئب القاصية))(39).
2- الجماعة في السفر: قال - صلى الله عليه وسلم -: ((الراكب شيطان، والراكبان شيطانان، والثلاثة ركب))(40).
3- الاجتماع في المنزل: عن أبي ثعلبة الخشني قال: كان الناس إذا نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منزلاً تفرقوا في الشعاب والأودية فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن تفرقكم في هذه الشعاب والأودية إنما ذلكم من الشيطان)) فلم ينزل بعد ذلك منزلاً إلا انضم بعضهم إلى بعض، حتى يقال: لو بسط عليهم ثوب لعمهم»(41).
ثالثاً: الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم:
وقد أمر الله - سبحانه - بالاستعاذة من الشيطان عند أمور كثيرة؛ وهذا لشدة الحاجة إلى التعوذ منه.
1- عند تلاوة القرآن: قال - تعالى -: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)[النحل:98].
2- للحماية من السحر والسحرة: قال - تعالى -: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ)[الفلق].
3- عند دخول المساجد: عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه كان إذا دخل المسجد قال: ((أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم))، وفيه: ((فإذا قلت ذلك قال الشيطان: حفظ مني سائر اليوم))(42).
4- عند الوسوسة في الصلاة: فقد أتى عثمان بن أبي العاص النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله: إن الشيطان قعد بيني وبين صلاتي وقراءتي يلبسها عليَّ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ذاك شيطان يقال له خنزب، فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه، واتفل على يسارك ثلاثاً))، قال: ففعلت ذلك، فأذهبه الله عني(43).
5- عند الغضب: عن سليمان بن صرد قال: كنت جالساً مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورجلان يستبان، فأحدهما احمر وجهه وانتفخت أوداجه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إني لأعلم كلمة لو قالها ذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان، ذهب عنه ما يجد))، فقالوا له: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: تعوذ بالله من الشيطان، فقال: وهل بي جنون»(44)؟!.
والاستعاذة حصن حصين من نزغات الشياطين (وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين)[المؤمنون:97]، وقال - جل ثناؤه -: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[فصلت:36].
إن خالق هذا القلب يعلم مداخله ومساربه، ويقدر طاقته واستعداده، يحوط قلب المسلم من نزعات الغضب، ونزغات الشيطان مما يلقاه في طريقه، مما يثير غضب الحليم، فما أجدر المسلم أن يتبع هذا التوجيه الرباني.
وحسبك أيها العبد المطيع الله؛ فإن الله هو السميع العليم، سميع لجهل الجاهلين، وسفاهتهم، عليم بما تحمله نفسك من أذاهم ... وفي هذا ترضية للقلب، وتسرية للنفس ... فحسبهما أن السميع العليم يسمع ويعلم... وماذا تبتغي أيها المسلم بعدما يسمع الله ويعلم ما تلقى من السفاهة والجهل، فأعرض عن الجاهلين.
6- عند رؤية الإنسان في المنام ما يكره: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((الرؤيا الحسنة من الله، فإذا رأى أحدكم ما يحب فلا يحدث به إلا من يحب، وإذا رأى ما يكره فليتعوذ بالله من شرها، ومن شر الشيطان، وليتفل ثلاثاً، ولا يحدث بها أحداً، فإنها لن تضره))(45).
7- عند العين: وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعوذ الحسن والحسين، يقول: ((إن أباكما كان يعوذ بها إسماعيل، وإسحاق، أعوذ بكلمات الله التامة؛ من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة))(46).