إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أما بعد:
1-فإن شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الله لعظيم وإن قدره لكريم فلقد اختاره الله تعالى واصطفاه على جميع البشر وفضله على جميع الأنبياء والمرسلين وشرح له صدره ورفع له ذكره ووضع عنه وزره وأعلى له قدره وزكاه في كل شيء.
زكاه في عقله فقال سبحانه:
(مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى)(سورة النجم: ٢).
وزكاه في صدقه فقال سبحانه:(وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى)(سورة النجم: ٣).
وزكاه في بصره فقال سبحانه:( مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى)(سورة النجم: ١٧).
وزكاه في فؤاده فقال سبحانه:( مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى)(سورة النجم: ١١).
وزكاه في صدره فقال سبحانه:(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) (سورة الشرح: ١).
والمراد بالصدر هنا:القلب ، وقال ابن عباس رضى الله عنهما: شرحه بنور الإسلام.
وقال سهل:بنور الرسالة،وقال الحسن: ملأه حكما وعلما، وقيل معناه: ألم يطهر قلبك حتى لا يقبل الوسواس ؟( الشفا بتعريف حقوق المصطفى: جـ1صـ18).
وزكاه في ذكره فقال سبحانه:(وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ)(سورة الشرح: ٤).
قال القاضى عياض رحمه الله:هذا تقرير من الله جل اسمه لنبيه صلى الله عليه وسلم على عظيم نعمه لديه وشريف منزلته عنده وكرامته عليه بأن شرح قلبه للإيمان والهداية ووسعه لوعى العلم وحمل الحكمة ورفع عنه ثقل أمور الجاهلية عليه وبغضه لسيرها وما كانت عليه بظهور دينه على الدين كله وحط عنه عهدة أعباء الرسالة والنبوة لتبليغه للناس ما نزل إليهم وتنويهه بعظيم مكانه وجليل رتبته ورفعة ذكره وقرانه مع اسمه اسمه.
وقال قتادة رحمه الله :رفع الله تعالى ذكره في الدنيا والآخرة، فليس خطيب ولا متشهد ولا صاحب صلاة إلا يقول أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله(الشفا: جـ1صـ19).
وزكاه في طُهره فقال سبحانه:(وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ )(سورة الشرح: 2).
وزكاه في حلمه فقال سبحانه:(بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ)(سورة التوبة: 128).
وزكاه في علمه فقال سبحانه:(عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى) (سورة النجم: 5).
وزكاه في خلقه فقال سبحانه:(وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)(سورة القلم: 4).
2- أخبر الله عز وجل عن منزلته في الملأ الأعلى عند رب العالمين وعند الملائكة المقربين فقال سبحانه:(إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ)[الأحزاب:56] ثم أمر أهل الأرض من المؤمنين بالصلاة والسلام عليه ليجتمع له الثناء من أهل السماء وأهل الأرض فقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
وعن أبي هريرة رضى الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: "مثلي ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بنى بنياناً فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة! قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين"(رواه البخاري ومسلم).
وعن أبي هريرة رضى الله عنه أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم قال: "فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم ونصرت بالرعب وأحلت لي الغنائم وجعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً وأرسلت إلى الخلق كافة وختم بي النبيون"(رواه مسلم).
3- أخذ الله الميثاق على جميع النبيين والمرسلين إن بعث فيهم الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم أن يؤمنوا به وينصروه قال تعالى:(وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ )[آل عمران:81].
قال أبو الحسن القابسى رحمه الله :اختص لله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم بفضل لم يؤته غيره أبانه به وهو ما ذكره في هذه الآية.
قال المفسرون:أخذ الله الميثاق بالوحى فلم يبعث نبيا إلا ذكر له محمدا ونعته وأخذ عليه ميثاقه إن أدركه لا يؤمنن به وقيل أن يبينه لقومه ويأخذ ميثاقهم أن يبينوه لمن بعدهم، وقوله ثم جاءكم: الخطاب لأهل الكتاب المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم.
قال على بن أبى طالب رضى الله عنه: لم يبعث الله نبياً من آدم فمن بعده إلا أخذ عليه العهد في محمد صلى الله عليه وسلم لئن بعث وهو حى ليؤمنن به ولينصرنه ويأخذن العهد بذلك على قومه(الشفا :جـ1صـ44).
4-ومن فضله وشرفه صلى الله عليه وسلم أن الله عز وجل وقره في ندائه فناداه بأحب أسمائه وأسنى أوصافه حيث نادى على الأنبياء بأسمائهم الأعلام فقال جل وعلا:(وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ)[الأعراف:19]،
وقال:(وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)[الصافات:104،105] ، وقال:(يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا) [هود:48].
وقال:(يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا)[مريم:12].
وما خاطب الله عز وجل نبينا صلى الله عليه وسلم إلا بقوله:(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ) أو بقوله:( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ) ، وقوله :( يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ)، وقوله:( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ).
وجمع الله عز وجل فى الذكر بين خليله إبراهيم وخليله محمد صلى الله عليه وسلم فذكر خليله إبراهيم باسمه وخليله محمد بكنية النبوة فقال جل وعلا:(إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ)[آل عمران:68].
ومن شرفه وفضله صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى أقسم بحياته صلى الله عليه وسلم فقال:(لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ)[الحجر:72].
أخرج ابن جرير عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: ما خلق الله وما برأ وما ذرأ نفساً أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم وما سمعت الله أقسم بحياة أحد غيره قال تعالى:(لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ)[الحجر:72]. (تفسير الطبرى - سورة الحجر- القول في تأويل قوله تعالى : قال هؤلاء بناتي إن كنتم - وقوله : لعمرك - حديث:19337).