عبارة عظيمة ذات وقْع كبير، هي مقولة: "لا أعلم"، والتي لطالما قالها علماء الأمة ودُعاتها ومُفكِّروها،
وما زالت تلك الكلمة تقع على مسامعهم؛ حتى تعلَّموا وعلِموا؛ فعن الشعبي قال: "لا أدري" نصفُ العلم،
وعن نافع أن رجلاً جاء إلى ابن عمر يسأله عن شيء، فقال: لا علمَ لي، ثم التَفت بعد أن قفا الرجل، فقال:
نِعمَ ما قال ابنُ عمر، سُئِل عمَّا لا يعلم، فقال: لا علمَ لي، يعني ابن عمر نفسَه، وعن علي بن أبي طالب،
قال: إذا سُئلتُم عما لا تعلمون، فاهْربوا، قالوا: كيف الهرب يا أمير المؤمنين؟ قال: تقولون: الله أعلم، وعن
أبي البختري عن علي، قال: يا برْدها على الكبد أن تقول لِما لا تعلم: الله أعلم، وعن عبدالله بن مسعود
قال: مَن علِم منكم علمًا، فليَقل به، ومَن لم يعلم، فليقل لِما لا يعلم: الله أعلم.
كل هذه الآثار أخرَجها الدارمي في سُننه، تدلُّ على حرص الصحابة والتابعين على قول كلمة الحق؛
حتى تولَّدت في مجتمعهم ثقافةُ قَبول هذه العبارة وعدم نقد قائلها.
الأمة الإسلامية وثقافة أعلم
ولو نظَرنا في عُمق هذه الثقافة وفي صورتها الأوسع، لوجدنا أنها ممتدة الجذور؛ فالله -عز وجل-
يُخاطب الملائكة عن علمهم بما خلَقه -جل وعلا- فيقول -سبحانه- في سورة البقرة:
﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ *
قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾ [البقرة: 31 - 32].
فكان الجواب الواضح للملائكة: ﴿ سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا ﴾، ونبيُّنا -عليه الصلاة والسلام- حين يَسأله جبريل
في حديث مسلم الطويل حول مراتب الدين، فيقول: متى الساعة؟ فيأتي الجواب من رسول الله -عليه
الصلاة والسلام-: ((ما المسؤول عنها بأعلمَ من السائل))، وهكذا نرى الأنبياء وهم يؤكدون هذه الثقافة،
فيقول -جل وعلا- كما في سورة المائدة:
﴿ يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ﴾ [المائدة: 109].
الأمة الإسلامية وثقافة أعلم
والصحابة -رضي الله عنهم- ضرَبوا لنا أمثلة رائعة لا حصْر لها في إرجاع علوم المجهولات إلى
الله -سبحانه- ففي البخاري من حديث ابن عباس، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه:
((أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟))، قالوا: الله ورسوله أعلم، وفي حديث خالد الجُهني عند البخاري،
قال -عليه الصلاة والسلام- لأصحابه: ((هل تدرون ماذا قال ربُّكم؟))، قالوا: الله ورسوله أعلم،
وفي حديث أبي بكرة يوم النحر، قال -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: ((أتدرون أي يوم هذا؟))،
قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: ((أي شهر هذا؟))، قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: ((أي بلدٍ هذا؟))،
قلنا: الله ورسوله أعلم.
إنها ثقافة مجتمع بأسره، أن يُحال العلم في ما لا يعلمه إلى الله.
وتعالَ معي -أخي الكريم- إلى الواقع المؤلم لعامة الأمة، فضلاً عن علمائها ومُفكريها، فالعامي يتكلم
فيما لا يُحسن الكلام فيه، ويدَّعي علم ما لا يعلمه، بل ربما يتطاوَل على أهل الاختصاص في فنِّهم،
حتى أصبحت وسائل الإعلام اليوم بكلِّ صُورها وأشكالها سوقًا رائجة للجُهال وأنصاف المتعلمين،
الذين يُجيدون الحديث في كل شيء، حتى أصبحنا نسمع الأعاجيب من الآراء والأفكار والطروحات.
وما ذلك إلا لثقافة الأمة اليوم في عدم قَبولها لمقولة: "الله أعلم"، بل يَعتبرون قائلها جاهلاً،
وربما أُميًّالا ينبغي أن يتصدَّر المجالس، أو أن يكون رأسًا في القوم.
الأمة الإسلامية وثقافة أعلم
وهذا ما دفَع الكثير من دعاة الأُمة وعلمائها في زماننا -ومع الأسف الشديد- إلى النزول عند رغبة
العوام، والجُرأة في القول على الله بغير علمٍ، والفتيا دون تثبُّت أو مراجعة، ودونكم برامج الفتاوى
التي تَغَصُّ بها الفضائيات أو الإذاعات وعلى الهواء مباشرة، والتي لم نسمع فيها -إلا ما ندَر- مَن
يقول: "الله أعلم"؛ لأن قائل هذه الكلمة سيُسيء إلى القناة أو الإذاعة؛ كونها لم تُحسن اختيار المناسب،
وسيُسيء إلى سُمعة نفسه؛ كونه غيرَ كفءٍ، وربما سيسيء إلى الجهة التي يعمل فيها؛ كونها مؤسسة
متواضعة المستوى وعديمة المصداقية.
إنها ثقافة تحتاج إلى إعادة نظر؛ فالأمم المتحضرة إنما ترتقي حين تكتشف نقاط ضَعفها، وتتلمَّس
مواطن الخَلل في منهجها، وتتعلم في الفن الذي تَجهله، أما مَن يُكابر في فَهم الحقيقة، ويدَّعي علْمَ
كلِّ شيء، وهو لا يعلم، فإن تلك الثقافة لن تولِّد إلا جيلاً لا يَفهم الأشياء على حقيقتها،بل ربما
يفهمها على عكس ذلك.