لذة الكلام مع البسطاء / التعرف على مكنونات المرء عند التكلم معه لذة جديدة ، ومتعة حقيقية ، لم أعهدها من قبل ، تكمن في محادثة البسطاء من الناس، والقدرة على استخراج مكنونات تجاربهم إن وُفقت لهذا ، فما كل بارقة ٍ تجود ُ بمائها ، لأنهم كالكنز الخفي ، لا يستدل عليه إلا من وُفق ، و لذلك ترى أن كثيراً من الملوك وأصحاب الشأن من العظماء يحرصون على محادثة البسطاء العقلاء والبحث عنهم ، مِمَن لم تدرج أسماؤهم ضمن قائمة أعلام النبلاء في عصرهم . سمع الخليفة هارون الرشيد برجل صالح اسمه ابن السماك فطلبه ، دخل ابن السماك مجلس الخليفة ، وقد طلب الخليفة الماء ليشرب ، فجلس ابن السماك ، فقال الرشيد : عظني يا ابن السماك ، وقد أمسك الخليفة بالكأس ، فقال له : لو مُنعتَ يا أمير المؤمنين هذه الشربة بكم تشتريها ؟ أطرق الخليفة مفكراً للحظات ، ثم رفع رأسه و قال : بنصف ملكي ! فقال ابن السماك على الفور : فإن مُنعتَ خروجها بكم كنت تشتريه ؟ سكت قليلا ً ثم أجاب بصوت خافت ، كأنه يحدث نفسه : بنصف ملكي الآخر ! قال ابن السماك : إن مُلكا ً قيمته شربة ماءٍ لجدير أن لا ينافس فيه ، فبكى الرشيد !! فيا لله ، كم هي عبارات وجيزة اللفظ ، غزيرة الفائدة ، سالمة من التعقيد واضحة الدلالة على المعنى . يعادُ حَديثـُهُ فَيَزيدُ حُسنا ً ... وقد يُستَقبَحُ الشيءُ المُعاد ُ إن هؤلاء الذين لا يُؤبه بهم متى حلوا وارتحلوا ، مثل كبير السن الذي ربما تصادفه في محطة ٍ ما ، أو الغريب التقي الخارج من أحد المساجد الصغيرة ، أو صاحب الدكان في الأزقة الضيقة ، أو المزارع القنوع ، أو البائع المتجول أو غيرهم ، ينطقون أحيانا ً بكلام من ضروب الحكمة ، يرسلها أحدهم فتحسبها مثلا ً ، و ربما قذف أحدهم حكمة تقع منك بمكان ، فتتغير على أثرها حياتك ، و لو كُتبت بمداد الذهب ، على صحائف الفضة ، وعُلقت عند مداخل الجامعات ، و وسط ميادين العواصم ، لقالوا ما أحكم مَن قالها ! نعم لا تستغرب ، قد تلتقط من أفواههم أقولاً تشبه الجواهر ، تتسم بالوضوح والإيجاز ، لا تجدها عند بعض كبار المثقفين والمتعلمين ، الذين تسمع بأحدهم فيمتلئ سمعك إجلالا ً له وإكباراً ، فإن شاهدته و حادثته لقلت ما قاله ابن ماء السماء : أن تسمع بالمُعَيدي خير من أن تراه ! تجالسه فتجده قليل التجربة ، يتخبط في حديثه كحاطب ليل ، ويتقلب في رعونة عباراته كهواء البصرة ، وذلك لأنه من الذين لم يخوضوا غمار الحياة إلا من خلال المفاهيم النظرية الجافة ، أما أولئك البسطاء فقد كابدوا الدنيا وعركتهم الأيام ولم يغيرهم زهو منصبٍ ولا ذيوع صيتٍ و لا عظيم جاه ، وليست النائحة الثكلى كالمستأجرة . واكتشفت أيضا ً أن معرفة هذا الصنف من الناس من ثمين الصيد الذي يحتاج صاحبه الى نظر دقيق واستقراءٍ لبعض الدلائل ، لأنهم ليسوا بأصحاب أسماء رنانة فتعرفهم بها ، بل هم كما أسلفت بسطاء أخفياء لهم من التجارب ما جعلهم يمتلكون نظرة وعبرة وقدرة على إصدار حكم نتج عن خبرة ، بعبارة وجيزة خالية من التعقيد مملوءة بالحكمة ، ولذلك قيل أن طول التجارب زيادة في العقل و لسان التجربة أصدق . ومن تلك الدلائل الدالة عليهم على سبيل المثال كبر السن ، وسعة الصدر، و طول الصمت ، و إجابته لسؤالك عن الدنيا وعن أعباء الحياة وعن تغير الناس ، و كيفية اختياره لابتداء الحديث معك ، وغير ذلك ، قيل اقترب رجل ذات مرة من أحد أولئك البسطاء الذين يُتوسم فيهم العقل ، فقال له : أتسمح لي بسؤال ؟ قال : عن ماذا ؟ قال : أخبرني عن بعض الدروس التي تعلمتها من الحياة ؟ سكت قليلا ً ثم قال : نعم .... تعلمت أنني قد أسبب جروحاً عميقة لمن أحب في بضع دقائق فقط ، لكن قد أحتاج لعلاجها سنوات طويلة ! وتعلمت أن الأغنى ليس الذي يملك أكثر ، بل الذي يحتاج أقل !