من بركات هذا الدِّين الجليل، وثمرات اتّباع تعاليمه وإرشاداته أن عمل الخير وبذل الوسع فيه، لا يذهب سدىً مهما كان ضئيلاً. مصداقاً لقول اللّه تعالى {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} الأنبياء:47، وقال أيضًا {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ..} الزلزلة:7.د. إبراهيم نويري*
قد ثبت في الصّحيحين بأنّ المتصدّق والحريص على بسط الخير للمُحتاجين إليه يكون مستروحًا ظلّ صدقته ونسائمه اللطيفة يوم القيامة، كما في حديث عقبة بن عامر رضي اللّه عنه قال: سمعتُ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: ”كلّ امرئ في ظلّ صدقته حتّى يُقضى بين النّاس”. قال يزيد: فكان أبو مرثد لا يخطئه يوم إلاّ تصدق فيه بشيء ولو كعكة أو بصلة” أخرجه البخاري ومسلم.. وقد ذكر النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم- كما ثبت في الصّحيحين أيضًا- أنّ من السّبعة الّذين يُظِلُّهم اللّه في ظِلِّه يوم لا ظلّ إلاّ ظلُّه: ”رجل تصدّق بصدقة فأخفاها حتّى لا تَعْلَم شماله ما تنفق يمينه” أخرجه البخاري ومسلم.
لقد زفّت السنّة النّبويّة الشّريفة البُشرى لكلّ المنفقين في سبيل اللّه، والمسارعين بالخيرات. فإلى جانب شعورهم بالسّعادة إبان اجتهادهم في الخير ومجالاته المتنوّعة، حيث إنّهم يلمسون أثر ذلك في البركة الّتي تغشى حياتهم، وتحتوش أعمالهم ومنجزاتهم الدّنيوية.. فإنّ قلوبهم تظلّ متعلّقة بما بشّرهم به رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من مكانة جليلة ومنزلة حميدة.
كما نجد ذلك مثلاً في قوله صلّى اللّه عليه وسلّم: ”أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنّة، وأشار إلى السَّبابة والوُسطى” رواه البخاري ومسلم ومالك والترمذي وأبو داود والنّسائي من رواية سهل بن سعيد.
وفي حديث آخر عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: قال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: ”السّاعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل اللّه” رواه البخاري ومالك وغيرهما من رواة الحديث.
إنّ خيريّة وبركة هذه السنّة المطهّرة، ترشد المسلم وتبيّن له بأنّ عمله الصّالح يستمرّ أثرُه ويطاله نفعُهُ ونضحُهُ في كلّ الأحوال، وإنْ نبت الربيعُ على دمنته، عندما تصير روحه الطّاهرة تمرح في ملكوت ربّه جلّ في علاه؛ والمثال الصّريح والمباشر في دلالته على هذا المعنى، الحديث الصّحيح الّذي رواه الإمام مسلم في صحيحه: ”إذا مات ابن آدم انقطع عملُهُ، إلاّ من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولدٌ صالحٌ يدعو له”.
لا ريب في أنّ الأمّة الإسلامية والأجيال المسلمة الصّاعدة الواعدة، لا، ولن، وهيهات أن ينصلح أمرها ويستقيم سيرها، في التّربية والتّعليم والاجتماع والسياسة والسّلم والحرب والعلاقات الإنسانية، وفي كافة آفاق مجالات الحياة.. إلاّ إذا رجعتْ لهذه السنّة الشّريفة المطهّرة، تأخذ من آدابها المشرّقة، وعظاتها النّفّاذة وتوجيهاتها الحيّة.. أي تتعلّم من سيرة نبيّها، وتستلهم منهجه ومسالكه، وتستهدي بتعاليمه وتصرّفاته وحكمته، في شتى صُعد الحياة وما يطرأ فيها من متغيّرات ونوازل ومستجدات.
أجل لا يتحقّق لهذه الأمّة وأجيالها وشعوبها شيء، إلاّ إذا التفّت على هذا المنهج المنير التفاف الكواكب الصغيرة على أعظم كوكب وأكثرها إضاءة وإشراقًا؛ فهذا الأمر ينبغي أن يكون من المُسلَّمات والقطعيات الّتي ينبعي أن تنأى عن كلّ جدال عقيم، أو مماحكة مستريبة.
فمنشئ هذه السنّة العطرة صاحبُ قلبٍ تناهتْ إليه كلُّ أمجاد الفطرة الإنسانية الصّحيحة الصّافية، فأضحى زهرة تفوح بأريجها وخيرها وبركتها.. لا يدركها ذبول ولا يخبو لها سنًّا مع كرّ الأيّام والدهور.. وسرّ ذلك أنّها من غرس اللّه.. لتكون رحمة للعالمين.. إلى أن يرث اللّه الأرض ومَن عليها وهو سبحانه خير الوارثين.
*أستاذ بجامعة تبسة