بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الهدى والرُّشد أساس صلاح العبد
لقَدْ خَلَقَ اللهُ تعالى الإنْسَانَ في أحْسَنِ تَقْوِيم، وحَبَاهُ بالتَّشْرِيفِ والتَّكْرِيم، كما قال سبحانه: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيم﴾[التين:4]، وقال سبحانه: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا﴾[الإسراء:70].
ومِنْ تَمامِ تَكْرِيمِ اللهِ عزوجل للنَّوْعِ الإنْسَانِيِّ أنْ أرْسَلَ إلَيْهِمُ الرُّسُلَ مُبَشِّرِينَ ومُنْذِرِينَ، وأنْزَل مَعَهُم الكتابَ بالحقِّ المُبِينِ، كما قالَ تعالى: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ الله النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى الله الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَالله يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم﴾[البقرة:213]، وختمَهُم بِنَبِيِّه المصطفى، ورسُولِه المُجْتَبَى: محمَّدِ بْنِ عبد الله الهاشمي القُرَشِيِّ المكِّيِّ ثمَّ المدَنيِّ ﷺ، الَّذي أرْسَلَه بالهُدَى وهو: العِلْمُ النَّافِعُ، ودِينِ الحَقِّ وهو: العمَلُ الصَّالح(1)؛ كما قال سبحانه: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِالله شَهِيدًا﴾[الفتح:28].
ثُمَّ إنَّ اللهَ تعالى أوْدَعَ في هذا الإنْسَانِ قُوَّتَيْنِ: قوَّةً عِلْمِيَّةً، وقُوَّةً عمَلِيَّةً(2)؛ فالقُوَّةُ العِلْمِيَّةُ: هي قوَّةُ العِلْمِ والإدْرَاكِ والتَّمْييز؛ والقُوَّةُ العَمَلِيَّة: هي قوَّةُ العَمَلِ والإِرَادَةِ؛ وهاتان القُوَّتَانِ مِنَ الأمُورِ الَّتي تُدْرَكُ بالحِسِّ، ويجَدِهُمُاَ كُلُّ أحَدٍ في نَفْسِهِ ضَرُورَةً.
وكَماَلُ الإنْسَانِ، وصَلاَحُهُ، يَكونُ باسْتِعْمَالِ هاتَيْنِ القوَّتَيْن فِيمَا يَنْفَعُهُ: فيسْتَعْمِلُ قوَّةَ العِلْمِ والإدْرَاكِ في مَعْرِفَةِ الحَقِّ؛ وقوَّةَ العَمَلِ والإرَادَةِ في اتِّباعِهِ، والعَمَلِ به، وإيثَارِهِ على الباطل؛ فإذا فسَدَتْ إحْدَى القوَّتَيْنِ أوْ كِلْتَاهمُاَ، كان فسادُه بحَسَبِ ذلك؛ فَفَسَادُ القُوَّةِ العِلْمِيَّة يَنْجُمُ عَنْهُ: عَدَمُ مَعْرِفَةِ الحقِّ وإدْرَاكِه، أوْ عَدَمُ التَّمْييزِ بيْنَه وبيْنَ الباطِلِ؛ وفسادُ القُوَّةِ العمليَّةِ ينْجُمُ عنْهُ: الإعْرَاضُ عَنِ الحقِّ، وتَرْكُ اتِّبَاعِهِ والعَمَلِ به(3).
وسَبَقَ بيانُ أنَّ الرسولَ ﷺ أرْسَلَهُ الله عزوجل بالعِلْمِ النَّافع الَّذي تكْمُلُ بِهِ قوَّةُ الإنسانِ العِلْمِيَّةُ، والعَمَلِ الصَّالِح الَّذي تَكْمُلُ به قوَّةُ الإنسانِ العمليَّةُ؛ وعَلَيْهِ، فإنَّ كمالَ الإنسان يَكُونُ بمعْرِفَةِ ما جاءَ بِهِ الرسولُ ﷺ واتِّبَاعِه.
وقد وصَفَ اللهُ جلَّ وعَلاَ طائِفَةً من أنْبِيَائِهِ ـ عليهم الصَّلاة والسَّلام ـ بكَماَلِ قُوَّتَيْهِمْ العِلْمِيَّةِ والعَمَليَّةِ، فقال: ﴿وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَار﴾[ص:45].
«فالأيْدِي: القوَّةُ في أمْرِ الله، والأبْصَارُ: البصائِرُ في دِينِ اللهِ عزوجل؛ فبالبَصَائِرِ: يُدْرَكُ الحقُّ ويُعْرَفُ؛ وبالقُوَّةِ: يُتَمَكَّنُ مِنْ تَبْليغِهِ، وتَنْفِيذِهِ، والدَّعْوَةِ إليه»(4).
هذا؛ وقدْ جاءَ في كِتَابِ اللهِ عزوجل وسُنَّةِ نبيِّهِ ﷺ التَّعبيرُ عَنْ مَعْرِفَةِ الحَقِّ بلفْظِ: «الهُدَى»، وعن العَمَلِ به واتِّبَاعِهِ بلفظ: «الرُّشْد»؛ وكذلك جاء فيهما ذِكْرُ ضِدِّ هَذَيْنِ الأمْرَيْن وهما: «الضَّلاَلُ» وهو: عَدَمُ معرفة الحقِّ، و«الغيُّ» وهو عَدَمُ اتِّباعِ الحقِّ والعَمَلِ به(5).
والهُدَى والرُّشْدُ يَشْتَرِكَان في معنًى، ويفْتَرِقَانِ في معنًى آخر؛ فبينهما عُمُومٌ وخُصُوصٌ من وجْهٍ؛ وكلاهما مَعْنَاهُ: الاسْتِقَامَةُ على الحقِّ؛ والهُدَى يَكُونُ بالعِلْمِ بِهِ، والرُّشْدُ بالعَمَلِ بِهِ.
وكذلك الضَّلاَلُ والغيُّ يَشْتَرِكَانِ في مَعْنَى الانْحِرَافِ عَنِ الحَقِّ، والضَّلالُ يختصُّ بِعَدَمِ العِلْمِ به، فهو يَعُودُ إلى فَسَادٍ في الفَهْمِ؛ والغيُّ بِعَدَمِ العَمَلِ به، فهو يعودُ إلى فسادٍ في القَصْدِ.
وإذا أنْعَمْنَا النَّظَرَ في كِتَابِ اللهِ عزوجل، وَجَدْنَا أنَّ اللهَ عزوجل كثيرًا ما يُقَابِلُ بَيْنَ الهُدَى والضَّلاَلِ، وبَيْنَ الرُّشْدِ والغَيّ، وذلك في مِثلِ قوْلِه عزوجل: ﴿أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِين﴾[البقرة:16]، وقوْلِهِ عزوجل: ﴿فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء﴾[الأنعام:125]، وقوْلِه: ﴿مَن يَهْدِ الله فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُون﴾[الأعراف:178]؛ وفي مثل ِقوْلِه تعالى: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾[البقرة:256]، وقوْلِه: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِين﴾[الأعراف:146].
كما أنَّ اللهَ عزوجل نَزَّهَ نبيَّهُ ﷺ عن الضَّلالِ والغَيِّ، فقال: ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى﴾[النجم:4].
هذا في الكتَابِ؛ أمَّا في السُّنَّةِ فَقَدْ وَصَفَ النَّبيُّ ﷺ خُلَفَاءَهُ رضي الله عنهم بالهُدَى والرُّشْدِ اللَّذَيْنِ يسْتَلْزِمَانِ معْرِفَةَ الحقِّ، والعمَلَ به، فَعن الْعِرْبَاضِ بن سارية رضي الله عنه قال: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ ذَاتَ يَوْمٍ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ، فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا؟ فَقَالَ: «أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ المَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ»(6).
فتَبيَّنَ حينَئِذٍ أنَّ الضَّلالَ: فَسَادٌ في قُوَّةِ الإنْسَانِ العِلْمِيَّةِ، والغيَّ: فسادٌ في قُوَّتِه العَمَلِيَّةِ؛ وبهَذَا وذَاكَ يكونُ فسادُ دينِهِ؛ لهذا كان أصْلُهُما من الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ، فقد قال تعالى: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِين* وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيم* وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلاًّ كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُون﴾[يس:62]، وقال أيضًا مُخَاطِبًا إبْليسَ: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِين﴾[الحِجر:42].
كما أنَّ فَسَادَ إحْدَى هاتَيْن القُوَّتَيْنِ في الإنْسَانِ، هو خروجٌ عن الصِّراطِ المستقيمِ الَّذي هو صراطُ المْـُنْعَمِ عَلَيْهِم، والمُغَايِرِ لصراطِ الضَّالِّينَ وهُمُ النَّصَارَى، الَّذين قال الله عزوجل فيهم: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيل﴾[المائدة:77]، وصراطِ المغضوبِ عَلَيْهِم وهُمُ اليهودُ الغَاوون، الَّذين قال الله عزوجل فيهم: ﴿وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً﴾[الأعراف:146]، ومِصْدَاقُ ذلك في حَدِيثِ عديِّ ابنِ حَاتِمٍ الطَّائِيِّ رضي الله عنه مرفوعًا: «اليَهُودُ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ، وَالنَّصَارَى ضَالُّونَ»(7)، فمَنْ ضَلَّ عَنِ الحقِّ: فَفِيه شَبَهٌ مِنَ النَّصارَى، ومَنْ عَرَفَ الحقَّ ولَمْ يتَّبِعْهُ: فَفِيه شَبَهٌ مِنَ اليهود.
إذا تقرَّرَ هذا، فإنَّ سَبَبَ الضَّلالِ والغَيِّ أمران:
أوَّلُهُما: ما خُلِقَ عليه الإنْسَانُ من الجَهْلِ والظُّلْمِ، إذْ قال اللهُ عزوجل: ﴿وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً﴾[الأحزاب:72]، فالجَهْلُ مانِعٌ له مِنْ مَعْرِفَةِ الحَقِّ، والظُّلْمُ مانِعٌ له مِنِ اتِّبَاعِهِ؛ لهذا قال الله عزوجل عَنْ فِرْعَوْنَ وقوْمِهِ: ﴿فَلَمَّا جَاءتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِين* وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِين﴾[النمل:14].
مِنْ أجْلِ ذلك أنْزَلَ اللهُ عزوجل مَعَ رُسُلِهِ ـ عليهم الصَّلاة والسَّلام ـ الكُتُبَ الَّتِي فيها العِلْمُ دَوَاءً لِلْجَهْلِ، والميزَانَ الذي فِيهِ العَدْلُ دَوَاءً للظُّلْمِ، فقال سبحانه: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾[الحديد:25]، وقال: ﴿الله الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ﴾[الشورى:17]؛ فالعَمَلُ بالشَّريعَةِ كَفِيلٌ بِعِلاَجِ هَذَيْنِ الدَّاءَيْنِ.
الأمْرُ الثاني: تعرُّضُ الإنْسَانِ لفِتْنَتَيْنِ عظيمتَيْنِ، هما مَدْخَلُ الشَّيْطان لإفْسَادِ قُلُوبِ بني آدم(
:
فالضَّلالُ: سبَبُه فِتْنَةُ الشُّبُهات، وهي: البِدَعُ والأهْواءُ؛ لهذا قال النَّبيُّ ﷺ في حديث العرباض المذْكُورِ آنِفًا: «وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ» أي: مُوقِعَةٌ لمُقْتَرِفِها في الضَّلاَلِ.
والبِدْعَةُ مَقْرونَةٌ بالهَوَى، لأَجْلِ كَوْنِ اتِّبَاعِ الهَوَى مُضِلاًّ لِصَاحِبِهِ أيْضًا، فَقَدْ وَصَمَ اللهُ عزوجل بالضَّلالِ مَنِ اتَّبعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ فقال: ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾[الأنعام:119]، وقُرِئَ: ﴿لَّيُضِلُّونَ﴾ بالفَتْحِ؛ وقال عزوجل: ﴿بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ الله﴾[الروم:29]، وقال: ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ الله إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ الله﴾[ص:26].
واسْتِنَادًا إلى هذه الآيات وأمْثَالهِاَ قالَ شيخُ الإسلام ابْنُ تيميَّةَ كَمَا في «المجموع» (28 /133): «وَلِهَذَا كَانَ مَنْ خَرَجَ عَنْ مُوجِبِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْعُبَّادِ، يُجْعَلُ مِنْ أَهْلِ الأَهْوَاءِ؛ كَمَا كَانَ السَّلَفُ يُسَمُّونَهُمْ أَهْلَ الأَهْوَاءِ، وَذَلِكَ أنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يَتَّبِعِ الْعِلْمَ، فَقَدْ اتَّبَعَ هَوَاهُ؛ وَالْعِلْمُ بِالدِّينِ لا يَكُونُ إلاَّ بِهُدَى اللهِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ رَسُولَهُ».
ومِنْ هُنَا نَفْهَمُ لماذَا جَعَلَ اللهُ عزوجل اتِّبَاعَ الهَوَى، بإزَاءِ الاسْتِجَابة للرَّسُولِ ﷺ ومَا جَاءَ بِهِ مِنَ العِلْمِ والهُدَى، فقالَ عزوجل: ﴿فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ الله﴾[القصص:50]، وقال أيضًا: ﴿إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى﴾[النجم:23].
أمَّا الغيُّ: فسبَبُهُ فتنةُ الشَّهَوَاتِ وهي: المعَاصِي وفِسْقُ الأعْمَالِ، لهذا قالَ اللهُ تعالى: ﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاَةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا﴾[مريم:59]، وقال أيضًا: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِين* وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ﴾[الأعراف:176]؛ وهذا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللهُ عزوجل لِمَنْ آتَاهُ اللهُ عِلْمًا، ولكنَّه يَعْمَلُ بِخِلافِه، فهو يَعْرِفُ الحَقَّ ولكن يصُدُّهُ عن العمَلِ بِهِ اتِّباعُهُ لِهَوَاهُ وشَهَوَاتِه.
ومِنْ ذلك أيضًا أنَّ الخَمْرَ ـ وهي من كبائر الذُّنوب ـ مُوجِبَةٌ للغَيِّ؛ ففي «الصَّحِيحَيْنِ» عن أبي هريرة رضي الله عنه: «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ أُتِيَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ بِقَدَحَيْنِ مِنْ خَمْرٍ وَلَبَنٍ؛ فَنَظَرَ إِلَيْهِمَا، فَأَخَذَ اللَّبَنَ؛ فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: الحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَاكَ لِلْفِطْرَةِ؛ لَوْ أَخَذْتَ الخَمْرَ غَوَتْ أُمَّتُكَ».
من أجْلِ ذلك كُلِّهِ حَذَّر النبيُّ ﷺ أُمَّتَه مِنْ هاتَيْنِ الفِتْنَتَيْن العَظِيمَتَيْنِ، فعن أبي بَرزَةَ الأسْلَمِي رضي الله عنه مرفوعًا: «إنَّمَا أخْشَى عَلَيْكُمْ شَهَوَاتِ الغَيِّ في بُطُونِكُمْ وفُرُوجِكُمْ، ومُضِلَّات الهَوَى»(9).
وقد جمَعَ َالله عزوجل بَيْنَ هاتَيْنِ الفِتْنَتَيْنِ في قوله: ﴿كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَدًا فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ﴾[التوبة:69]؛ فقوله عزوجل: ﴿فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ﴾ أي: تمتَّعُوا بنصِيبِهِمْ مِنَ الدُّنيا وشَهَواتِها ـ والخَلاَقُ هو: النَّصِيبُ المُقَدَّرُ ـ وهذه هي فِتْنَةُ الشَّهَوَاتِ؛ ثمَّ قال عزوجل: ﴿وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ﴾[التوبة:69] فهذا الخوْضُ بالباطل هو: فتنة الشُّبُهَات(10).
أمَّا درْءُ هاتَيْنِ الفتْنَتَيْن ودَفْعُهُما فيكون بأمْرَيْن اثنَيْنِ وهما: الصَّبْرُ واليَقِينُ؛ فباليَقِينِ الَّذي هو ثَمرَةُ العِلْمِ النَّافع: تُدْفَعُ فتْنَةُ الشُّبُهات؛ وبالصَّبْرِ: تُدْفَعُ فِتْنَةُ الشَّهَوَات؛ لهذا قال اللهُ عزوجل في وصْفِ عِبَادِهِ المؤمنين الصَّالحين: ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر﴾[العصر:3]، فتوَاصَوْا بالحَقِّ الَّذي يَدْفَعُ الشُّبُهَاتِ، والصَّبْرِ الَّذي يَكُفُّ عَنِ الشَّهَواتِ؛ كما جَعَلَ سبحانه الإمَامَةَ في الدِّينِ مَنُوطَةً بِهَذَيْن الأَمْرَيْنِ فقال: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُون﴾[السجدة:24]، وأمَرَ الله عزوجل نبيَّهُ ﷺ بهاتيْن الخَصْلَتَيْنِ العظيمَتَيْنِ فقال: ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُون﴾[الروم:60](11).
وآخِرُ دَعْوَانا أنِ الحمْدُ للهِ ربِّ العالمَين.