إذا كانت حياتنا صفحة فعقولنا كتاب
أرياف التميمي
بعد زمن طويلٍ من الصبر على الأذى، وتجرُّع كؤوس الألَم المتتالية، قيل لنا: افتَحوا صفحة جديدة في حياتكم، صفحة بيضاء خالية من الماضي.
أيام مضَت ومضى معها ربيعُ العمر، قلوب تحطَّمت، أحلام تهدَّمت، قصور بنيناها من دمائنا، وأموال صرَفناها من بنك سعادتنا، ليالٍ لَم نستطع نومَها، نوبات هلَعٍ وخوف قاسَيْناها، وطموحات حطَّمناها، وبكلِّ سهولة طُلِبَ منَّا نسيانها.
أشخاص وجوههم أضْحَت كالأشباح، نراها في كلِّ مكان مظلمٍ، نراها في وَحْدتنا وحزننا، في يَقَظتنا وحُلمنا، نراها تتراءَى أمام أعيننا في كلِّ لحظة شقاءٍ تمرُّ بنا، فكيف ننساها؟!
أحداث مرَّت، ولكنَّها خلَّدت معاناة ومأساة في قلوبنا، وهواجس في أفكارنا، وسَكَبنا بسببها الكثيرَ من الدموع التي ما زالت آثارُها محفورة في ملامح وجوهنا، فهل إلى نسيانها من سبيلٍ؟!
حياتنا ليستْ كتابًا نُقلِّب صفحاته متى أرَدْنا، بل هي صفحة واحدة فقط تداخَلت كلماتها، واجتمَعت بدايتها مع نهايتها.
ما حدَث في الماضي جزءٌ لِما سيحدث في المستقبل، وما يَحدث في الحاضر ليس سوى إعادة للماضي، وتَكرار للمستقبل.
الحياة متداخلة ببعضها، وأحداثها مترابطة، قد نتغاضى عمَّا كُتِب في الهامش، ولكن ليس بإمكاننا التغافلُ عن العناوين التي تَحمل بين حروفها قصصَ فَشَلنا وانكسارِنا، قد نَمسح ما كتبناه بأقلام الرصاص، ولكن لن نستطيعَ مسْحَ ما كتَبناه بدمائنا، وحتى المسافات بين الكلمات، الكل يراها خالية، إلاَّ نحن، فنرى فيها قلوبَنا تَعتصِر، وأرواحنا تُهدَر، وطاقاتنا تُسْتنزَف، فكيف نمسحُها وهي لَم تُكتب؟!
والحروف لا تتوقَّف عن الحركة أبدًا، فهي تتراقص أمام أعيننا؛ لتوقِظَ ذاكرتنا من سُباتها العميق، وتَصحبها في رحلة إلى الماضي، فتمرَّ بكلِّ محطات الحزن والألَم، وتُجبرها على تأمُّل قَصص كادَت أن تَنساها.
ولِتَستمر الحياة نَلجأ إلى تقييد ذاكرتنا في رُكنٍ من عقولنا؛ لنَكبحَ فيها سَعيها وراء ملفَّاتٍ قد طُوِيَت وأحداث قد مُحِيَت، وقد نَضطرُّ في الكثير من الأحيان إلى فكِّ الرِّباط عنها؛ لنُعطيها فُسحةً للتنزُّه بين ملفات الماضي؛ لأننا إن لَم نُعطِها فُسَحًا، فسَتفكُّ القيود يومًا ما رغمًا عنَّا، وستَنْطَلق لا للتنزُّه، ولكن للتخريب.
ما يجب علينا قلبُه هو الطريقة التي نَنظر بها إلى هذه الصفحة، دَعُونا نَلبس نظَّارة التفاؤل التي تَجعلنا نقرأ حروفها بطرقٍ مختلفة تمامًا، ونُعيد تشكيل حروفها، فبإمكاننا مثلاً إعادةُ ترتيب حروف كلمة (ألَم)؛ لتُصبح (أملاً)، ثم نَستبدل الألف بالعين، فيصبح لدينا (عمل)، أو نَقلب ألف (ألَم) إلى عينٍ، فنَحصل على (علم)، وهكذا نكون قد حصَلنا على (أمل، وعمل، وعلم) من (الألَم)، وبإمكاننا أيضًا إضافة تاءٍ مربوطة إلى (الهم)، فيُصبح (هِمَّة).
إذا لَم يكن لدينا المجال لفَتْح صفحة جديدة من حياتنا، فالمجال مُتَّسعٌ أمامنا؛ لإعادة النظر إلى الصفحة الوحيدة من حياتنا، فإن لَم نَملِك القدرة على تقليب صفحة الحياة، فلنَسْتَعِن بقُدرتنا على تقليب عقولنا وقلوبنا، فنَقلب مشاعرنا وأفكارنا.
بإمكاننا فتْحُ عشرات، بل مئات الصفحات الجميلة، فنَفتح صفحات من التفاؤل، وصفحات من الصمود، وصفحات من النقاء.