الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه، وبعد:
في زمن الفتن تختلط الأمور على الناس ويصبح الإنسان في حيرة من أمره، بحيث لا يدري أي طريق يسلك وفي أي صف يقف، وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بوقوع هذه الفتن فقال: (( ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم والقائم فيها خير من الماشي والماشي فيها خير من الساعي من تشرف لها تستشرفه فمن وجد منها ملجأ أو معاذا فليعذ به)). رواه البخاري
تشرف لها: أي تطلّع لها، تستشرفه: أي تهلكه، فليعذ به: ليعتزل فيه من شر الفتن.
إذاً فالفتن والاختلافات واقعة بالأمة لاشك، فقد تقع الفتن بالأمة الإسلامية عامة وقد تقع الفتن في قطر من أقطار الأمة الإسلامية وقد تقع بين أبناء القطر الواحد وقد تقع بين أبناء المشروع الواحد والفكر الواحد فما موقف المسلم من هذه الفتن وما هو الطريق الذي نسلكه ونهتدي إليه؟
وقد أرشدنا حبيبنا محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى مصابيح تنير طريقنا هي سبل النجاة بقوله - عليه السلام -: (( تركتُ فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله وسنتي)).
والنجاة تكون بالعمل بما في القرآن واتباع سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - والتأسي بالسلف الصالح رضوان الله عليهم جميعا.
إن الفتن والاختلافات التي تنجم بين الدعاة والعاملين للإسلام على وجه الخصوص، تحتاج منا إلى حذر شديد في التعامل معها، فكلا الفريقين يرفع راية الإسلام وينافح عنها، وكلا الفريقين يدفع ثمنه السير في هذا الطريق ويضحي بالغالي والنفيس ولا يتردد أن يقدم حياته لله رخيصة في سبيل الغاية التي وقف نفسه من أجل تحقيقها.
ومن باب النصيحة والتذكير أعرض هنا بعض الضوابط والقواعد للتعامل مع هذا النوع من الفتن التي تقع بين أبناء المشروع الواحد والمنهج الواحد، حيث ينظر الواحد إلى هؤلاء فيجدهم عدولا ثقات وينظر إلى هؤلاء فيجدهم أيضا عدولا ثقات.
أولا: التثبت من الأقاويل التي تنشرها وسائل الإعلام على لسان هذا الفريق أو ذاك (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) (6) سورة الحجرات.
فجميع وسائل الإعلام ومنابر التوجيه في قبضة العلمانيين الذين لا يتورعون عن الكذب على هؤلاء أو هؤلاء رغبة في القضاء على الفريقين وزعزعة ثقة الناس فيهم.
ثانيا: عدم استشراف هذه الفتن أو الخوض فيها، وإنما ينبغي لزوم الصمت عنها وعدم الخوض فيها وهذا لا يعني التوقف عن مناصحة المختلفين ومحاولة الإصلاح بينهما (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (10) سورة الحجرات.
ثالثا: أن ندرك أن الأصل في الطريق إلى الله عدم التعلق بالأشخاص مهما كانوا: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) [آل عمران: 144]، والمحن والشدائد والمواقف تفرز الرجال ومعادنهم ومبادئهم وكل من تساقط على الطريق وتجاوز الحق تجاوزه التاريخ، فيعرف الرجال بالحق ولا يُعرف الحق بالرجال.
رابعا: " مَن كانَ مُسْتَنًّا، فَلْيَسْتَنَّ بمن قد ماتَ، فإنَّ الحيَّ لا تُؤمَنُ عليه الفِتْنَةُ، أولئك أصحابُ محمد - صلى الله عليه وسلم -، كانوا أفضلَ هذه الأمة: أبرَّها قلوبًا، وأعمقَها علمًا، وأقلَّها تكلُّفًا، اختارهم الله لصحبة نبيِّه، ولإقامة دِينه، فاعرِفوا لهم فضلَهم، واتبعُوهم على أثرهم، وتمسَّكوا بما استَطَعْتُم من أخلاقِهم وسيَرِهم، فإنهم كانوا على الهُدَى المستقيم". ابن مسعود - رضي الله عنه -.
والمراد به: أنه من كان سالكا طريقا إلى ربه، فلا يسلك طريقا ابتدأه هو، ولا يقلد في دينه من هو مثله من الأحياء؛ لأنه الحي لا يدرى بم يختم الله به، فيقلد في دينه رجلا، إن كان اليوم على الهدى والسنة، فلعله أن يختم له بغير ذلك. وقد رأينا بأمهات أعيننا دعاة عاشوا عقودا طويلة وهم ملء السمع والبصر وأوذوا في سبيل الله فنالوا حظهم من السجون والمعتقلات، وها هم الآن قد خرجوا من صفوف الدعاة، بل وتحول بعضهم إلى العداوة الصريحة للدعوة التي طالما احتضنته ولأبناء هذه الدعوة الذين طالما حملوه وساندوه.
نسأل الله الثبات.
خامسا: أن يلزم المسلم الإنصاف والعدل في الأمر كله.
يقول الله - جل وعلا -: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) (الأنعام: من الآية152)...
ويقول - جل وعلا -: (ِوَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (المائدة:
فلابدَّ من العدل في الأقوال، ولا بدَّ من العدل في الأحكام، وأن من لم يعدل في قوله، أو يعدل في حكمه فقد ابتعد عن الشرع الحنيف.
سادسا: أن ندرك جيدا أن الخلاف كله شر كما قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -، وأن الفرقة عذاب ولا خير في الفرقة أبدا، وأن الخير كله في الاجتماع والتوحد لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (( الجماعة رحمة، والفرقة عذاب)).
وأخيرا...
فلنركض إلى الله، فالخير بيديه، والشكوى إليه، والأمر منه وإليه، إلى الله بالدعوات واللهفات والاستغاثات، بقنوت وصلوات، بأن يرفع الله الابتلاءات ويفرج عنا الكربات ويزيح عنا الهم، فبدون اللجوء إلى الله والتضرع إليه في سكون الليل قد يطول بنا الأمر، وتتعقد الأمور وتتنافر القلوب أكثر فأكثر، نسأل الله السلامة والعافية.