بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين وبعد ؛ فقد أنهينا في الدروس السابقة، بعض الآيات الكريمة المختارة من سورة البقرة، وننتقل إلى سورة آل عمران، وفي أوائل هذه السورة آيتان كريمان يقول الله سبحانه وتعالى فيهما:
﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15)﴾
(سورة آل عمران)
أيها الإخوة الكرام ؛ رُكب في كيان الإنسان هذه الشهوات، وقد يَفهم بعضهم أن هذه الشهوات أساس فساد العالم، والحقيقة عكس ذلك، فلولا هذه الشهوات التي ركبت فينا لما دخلنا الجنة، ثمّ إن هذه الشهوات حيادية، إنها سُلَّم ترقى بها إلى الجنة أو دركات تهوي بها إلى النار، إن هذه الشهوات بمثابة محرك يحرك هذه المركبة، فإذا كان مع هذا المحرك مقود يحافظ على بقاء السيارة على الطريق المعبد، كان هذا المحرك قوة دفعٍ لهذه المركبة، أما إذا كان هذا المحرك يعمل بلا مقود، والطريق فيه انعطافات، وعلى جانبيه وديان سحيقة، فالهلاك حتمي.
إذاً الشهوات حيادية، ليست هي سبب فساد العالم، بل إن سوء استخدامها هو سبب فساد العالم.
إنّ الشهوات التي أودعها الله فينا، قيَّدها في الوقت نفسه بمنهج رسمه الله لنا، فما من شهوة أودعها الله في الإنسان إلا ولها قناة نظيفة، لو سارت هذه الشهوة في خلال القناة لآتت أكلها ضعفين، كنت ضربت من قبل مثلاً، الوقود السائل بالسيارة، فيه قوة انفجارية، لكنه إذا وضع في مستودع محكم، وسال في الأنابيب المحكمة، وانفجر في الوقت المناسب، وفي المكان المناسب، ولّدَ حركةً نافعة، تسعد بها، وتنقلك أنت وأهلك إلى مكان جميل، ماذا يجري بالسيارة ؟ انفجار، لكنه انفجار وفق المنهج، أما لو خرج هذا الوقود عن مساره، وأصابت السيارةَ شرارةٌ لأحرقت المركبة وما فيها.
فإياك أن تتهم الشهوات، فلولاها لما ارتقيت إلى رب الأرض والسماوات، ولولاها لما دخلت الجنة، ولما تقربت إلى الله، تصور هل من طريق آخر تتقرب به إلى الله غير طريق الشهوات، المال محبب فإذا أنفقته حلالاً ارتقيت إلى الله، فإذ كان مع شخص خمسمئة ليرة، يمكنه أن يأكل طعاماً نفيساً هو وأهله، لكنّه أعطاها لفقير، لولا أنك تحب هذا المبلغ لما ارتقيت بإنفاقه، وأودع الله فيك حبَّ النساء، فلولا أنك تحب النساء ومررت في طريق على امرأة سافرة وغضضتَ بصرك عنها لا ترقى إلى الله، بل إن هذه الشهوات ترقى بها إلى الله مرتين، ترقى بها مرة صابراً ومرة شاكراً، فإذا نظرت إلى ما يحل لك ترقى شاكراً، وإذا غضضت عما لا يحل لك ترقى صابراً، إذا كسبت المال من وجوهه المشروعة وأنفقته فيما هو مشروع، كأنْ تأتيَ مثلاً بالطعام والشراب والفواكه لأولادك، وقد أدخلت على قلوبهم السرور، فإنّك ترقى إلى الله شاكراً، فإذا امتنعتَ عن أخذ مالٍ حرام، فيه شبهة، وأنت في أشد الحاجة إليه، وقد أودع اللهُ في كيانك حبَّ المال، ترقى إلى الله صابراً، هذه الشهوات إذًا كالمنشار، ترقى بها مرتين، فإنْ سلكت القناة النظيفة التي سمح الله لك أن تسلكها ارتقيت إلى الله شاكراً، وإن ابتعدت عن الوجه الذي حرمه الله عليك ترقى إلى الله صابراً، ولولا الشهوات لما ارتقيت إلى رب الأرض والسماوات، ولولا الشهوات لما تقربت إلى الله عز وجل، والإنسان يُصلي في اليوم خمس مرات، أما إذا سار في الطريق المشروع يصلي آلاف المرات، لأنّه كلما غضَّ بصره عن امرأة أجنبية ارتقى إلى الله، فهناك ألف طريق لكسب المال.
اليوم سمعتُ في الأخبار أنَّ أكبر ربح في العالم ربح المخدرات ؛ ألف مليار دولار، أعلى ربح في العالم، أرباح المخدرات التي تسبب الآلام لملايين الأسر، إنّها أرباح طائلة، إذاً فالإنسان إذا امتنع عن أخذ المال الحرام يرقى، وإذا سلك الطريق المشروع يرقى، وإذا غض بصره عن امرأة أجنبية يرقى، وإذا نظر إلى امرأته يرقى، كالمنشار ترقى بالشهوات مرتين، كلما أقبلت على طريق مشروع ترقى بها، وكلما ابتعدت عن طريق حرمه الله ترقى بها، فالإنسان لا يتألم من الشهوة، بل يتألم من نفسه، بشكل أو بآخر، السُّكَّر مادة ثمينة، والملح مادة ثمينة، فلو وضعت الملح في الحلويات، هل تأكلها ؟ أو وضعت السكر في طبخة غالية الثمن هل تأكلها ؟ لقد فسدت الطبخة، السكر مادة ثمينة ونافعة، والملح مادة ثمينة ونافعة، لكن أسأتَ الاستعمال، فالفساد هو في إساءة الاستعمال ؛ فالمرأة صممت لتكون زوجة لك، تسعد بها وتسعد بك، وتنجب أطفالاً ترفرف بوجودهم على البيت السعادة والهناءَة، أما إذا سلكت في قضاء هذه الشهوة طريقًا حرَّمه الله عليك تشقى، فالشقاء هو في سوء استخدام هذه الحظوظ وتلك الشهوة.
هذا معنى قول الله تعالى:
﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ﴾
أما الشيء الدقيق في هذه الآية:
﴿ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾
وكأن المتاع كلَّه في كلمة:
﴿ذَلِكَ﴾
هذه التي بين يديك.
﴿مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ (14)﴾
فإذا اتقى الإنسانُ اللهَ في هذه الشهوات، وجاءه ملك الموت ليقبض روحه، وقد مات على الإيمان، وعلى طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فله عودةٌ إلى الله لا توصف من شدة السعادة.
﴿وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ (14)﴾
فحينما تؤوب إلى الله، وقد اتقيت الله في هذه الشهوات، فلك عودة لله عز وجل، وأنتَ في أسعد الحالات.
لذلك قالوا: الموت عرس المؤمن، والشيء الثابت أنَّ أسعد لحظات المؤمن حين يلقى ربه، وا كربتاه يا أبي ! قال: لا كرب على أبيك بعد اليوم، غداً نلقى الأحبه محمداً وصحبه.
فلك أن تتزوج، وأنْ تنجب الأولادَ، وتشتغل وتكسب المال كله بالطريق الحلال، وفق المنهج الربَّاني، ادرس واحصل على شهادات عليا، وتاجر وافتتح محلات، ضمن المنهج، وكن صادقًا، لا غش، ولا تدليس، ولا ربا، وكل عملك وفق المنهج، فالله ما حرَّم عليك الدنيا، ليس بخيركم من ترك دنياه لآخرته، ولا من ترك آخرته لدنياه، إلا أن يتزود منهما معاً، فإن الأولى مطية للثانية، والدعاء الشريف:
(( اللهم اصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنيايّ التي فيها معاشي، وأصلح آخرتي التي إليها مردي، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسن، ة وارزقنا العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة، واهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت ))
وهذه واقعية النبي صلي الله عليه وسلم.
لكن دققوا في الآية التالية، فكل واحد من إخواننا الكرام ذاق نعمة المال، ونعمة النساء، ونعمة الزوجة، والبيت المريح، والمركبة الفاخرة، والبيت في المصيف.
فهذه الشهوات مارِسْها وعرفها، ثم إنّ ربنا عز وجل يقول لكم:
﴿قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ﴾
هل أنت مصدق لله عز وجل:
﴿قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾
وأثمن من كل ذالك:
﴿وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15)﴾
لذلك قال صلى الله عليه وسلم:
((ما أخذت الدنيا من الآخرة إلا كما يأخذ المخيط إذا غمس في مياه البحر ))
سافِر إلى طرطوس واركب القارب لأرواد واخرج من جيبك إبرة واغمسها في مياه البحر، ثم اسحبها، واحسُب النسبة، كم نقص البحر من مائه ؟
وكذلك قال النبي صلى الله عليه و سلم وهو:
﴿وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى﴾
( سورة النجم: الآية: 4، 5 )
لقد قال:
((ما أخذت الدنيا من الآخرة إلا كما يأخذ المخيط إذا غمس في مياه البحر.))
والحمد لله رب العالمين