ما الذي ينقص الإصلاح الإسلامي؟
الحمد لله، و الصلاة و السلام على رسول الله.
أولا: يجب أن نحرر مصطلح "الإسلاميين" فلستُ أقصد هنا إلا التيارات الدعوية و السياسية لأن هذا المصطلح صار يطلقه الإعلام على "الإصلاحيين الشيعة ضمن التشيع"، وعلى كل "جماعات الغلو و التطرف"
فالمقصود به هنا "الإصلاح السني" الذي ينطلق من تصور المشروع الإصلاحي كحملة دعوية دينية بحتة ، أو يزاوج بين الدعوة و العمل السياسي الحزبي و الجمعوي، وهو ما يسميه بعضهم بـ"الحركة القانونية" يعني: ضمن قانون الدولة .
هذه مجموعة أسئلة سأحاول من خلالها إنزال المشروع الإصلاحي الإسلامي إلى أرض الواقع لننظر إليه من خلال حقائق هذا الواقع و إكراهاته لعلنا نبصر نقاط القصور أو التقصير التي تشلُّه،فإن الإصلاحيين قد قدَّموا نظريات و أجوبة علمية في غاية الأهمية و أحيانا في غاية الدقة، ومهما تحدثنا عنها بعيداً عن مواجهة الحقيقة ستبقى حديثا نظريا في الفضاء، لا يرتبط بالواقع إلا في حدود تحرك الأفراد المقتنعين به.
أريد أن أقول : لا يمكن أن نفهم هذه النظريات أو المناهج الإصلاحية ما لم نسأل عن سبب رفضها أو إهمالها من قبل قطاع عريض من المسلمين وحتى من الإسلاميين أنفسهم ، و أين يكمن الإشكال بالضبط هل هو في المنظِّر الذي غفل عن استتباعها بخطوات الانتقال العملي بها من حيز النظرية إلى الحياة العملية، أم في النظرية في حد ذاتها التي من جهة التأصيل الشرعي كانت وفية لمتطلباته لكن من حيث الإنزال صدرت بالنظر إلى واقع آخر لم يعد موجودا ، من دولة لا أقول دينية لكن خاضعة له، لا تصدر إلا عنه إلى دولة قطرية لا تستطيع أن تضع سياستها بمعزل عن واقع العالم و صراع المحاور المختلفة، من مجتمع أحادي النسيج المذهبي إلى مجتمع متعدد الأعراق و المذاهب مما فرض وضعا جديدا على إشكالية حرية الرأي وحرية التعبير عنه ... الخ
لماذا بعد أزيد من قرن لم يصل الإصلاحيون الإسلاميون إلى إنجاز مشروعهم؟
هل المشروع الإصلاحي الإسلامي كما بلوره رواده القدماء أمثال : ابن تيمية ثم محمد بن عبد الوهاب، وبعد ذلك: جمال الدين الأفغاني،محمد عبده، ابن باديس، حسن البنا ، أبو الأعلى المودودي وغيرهم قادر على إعادة بعث الأمة أو الدولة الإسلامية أم أنه ناقص من عدة جوانب يحتاج إلى تدعيم بفكر إسلامي علمي تبلور في العصر الحديث، استعان بعلومه في سؤال التراث، و رسم مخططه وفقا لمعطيات و أحوال العالم المعاصر ؟
هل الدين الذي دعوا إلى إصلاحه يطابق الدين المنزل الذي شمل الإطار الاجتماعي و الإطار السياسي و الحضاري أم أن هذه الجوانب لأسباب سياسية و علمية بحتة أدت إلى الاختصاص و انفصال الحكم عن العلم، فلم يعد الدين مَعنيا إلا بالجانب الروحي ـ السلوكي، و الكلامي، و التعبدي ـ الأخلاقي، و بالتالي لم يكن في إصلاحه صلاح الحياة في جميع مجالاتها؟
هل يجب علينا أن نخرج من المعادلة الخاطئة " الإسلام كامل فيلزم أن المسلمين كاملون" التي صاغت منهجنا العلمي في مقاربة المشاكل و الإشكالات برؤية دفاعية محضة،فلا يلزم من كمال الإسلام كمال اجتهادات المسلمين الفردية؟
ما الذي يجب أن يسعى إليه الفرد و المجتمع المسلم أولا : الحاكمية أم أن يملكوا أخلاقيات الإله بالاتصاف بأوصافه التي خلقهم ليتخلقوا بها كما يقول أهل التصوف ومحمد إقبال ومالك بن نبي، و صبغ أفعالهم بصفات أفعاله : الحكمة و الرحمة، وما الذي من هذين الأمرين هو أساس بناء الأمة، و ما الذي منهما يُعيِّن نوع الأمة فهو القمة؟
هل مشكلة الأمة مشكلة دولة أم مشكلة فرد حيثما وضعته:في دولة، أو مستشفى، أو جامعة، أو معمل أو على قارعة الطريق له نفس الأخلاقيات و نفس السلوك المرضي، و بالتالي نفس المردود؟
هل سياسة الإسلاميين سياسة صحيحة أم أنها السياسة من أجل السياسة دافعها تصور طائفي أو حزبي نشأ من اعتقاد خاطئ بأن مشكل الأمة الأساسي سياسي الطابع أم تقع ضمن تصور شامل يبحث عن إيجاد الشروط و الظروف المهيئة ليتفتق فيها مسلم بدين صحيح ونفس سوية وعقل متزن يسعد بالحقيقة ولا يستمتع بالشر؟
هل النظر إلى المستقبل و التعامل مع الحاضر المختل بفقه التمكين أو بفكر معاصر يهتم بتكوين الدولة و إرساء القواعد و ترشيد المؤسسات يمكن أن يساعد في نهضة إسلامية حقيقية أم أنه موبوء بالفشل تماما كالفكر الإصلاحي الذي يعتمد فقط على الانفصال عن رواسب الماضي و سلبياته، فهذا يرى في تصفية الدين أو الفكر من رواسب الماضي السلبية الحل، و الآخر يرى أنه في انتزاع الحكم يكمن الحل و الخلاص ، وهو لا يملك مشروعا ينتقل به بالمسلم من حال الوهن إلى حال الحياة، من نفس خاملة تعاني من أمراض مختلفة إلى نفس سوية ، ومن عقل فاسد إلى عقلانية قرآنية حقيقية، من مجتمع يتوارث من قرون ذهنيات فاسدة إلى مجتمع رباني يؤسسان لدولة أصيلة ـ عصرية تكرم الإنسان و تحقق العدالة الاجتماعية و تحمل رسالة الإسلام.
لا اعتقد أن الحركات العلمانية بأسمائها المختلفة المزينة زورا بعبارات تدل على التيه كالحركة اليسارية، و الليبرالية، و اللائيكية الخ تملك مشروعا بديلا إلا بعض الأفكار الممسوخة المنبهرة بالغرب ليس فيما يشكل قوته الحقيقية و لكن في أفكاره المنحرفة عن حقيقة الإنسان استرسلت مع الجانب الجمالي على حساب الأخلاقي و العقلاني لذا فإن التموضع العلمي من الحركات الإصلاحية الإسلامية من خلال نقد تصوراتها ليس لحساب حركة التغريب و لكن نحن أمام حركتين: حركة أصيلة تريد النهضة بالأمة لكن تعاني رؤيتها من شلل بنيوي تتأمل أحوال الأمة لكن بين الخراب، لم تنفصل عن سلبيات الماضي، و لا أصلا تشعر بالحاجة إلى معالجتها، وحركة أجنبية لقيطة لا الدين تحفظ و لا إلى حياة هادفة تسعى.
وعليه فإن عاطفتنا الصادقة اتجاه المصلحين الإسلاميين تتجلى في كوننا عندما ننفصل عن فكرة لأحدهم لا نراها صائبة فبدون أن نكسر منزلتهم ونلعن أفكارهم، هو الانفصال عن المقاربة و ليس الانفصال عن العلاقة العضوية و لا عن العاطفة اتجاههم، تماما كما يطلق البرهان عنف الحكم على المقال ،فعندما يقول البرهان: هذا بدعة، وهذا مخالف للقرآن و السنة فلا علاقة لهذا العنف الذي يفرزه البرهان بالمودة و الإنصاف في الحكم على صاحب المقال فتلك قضية أخرى لها شروط معرفية أخرى مغايرة للأولى .
أظن أنه قد حان الأوان لنقول ما يجب أن نقوله، لنتكلم عن المسكوت عنه ، عن أسباب الإخفاق وعن آفاق المشروع الإسلامي، و ما الذي نحتاج إلى التخلص منه، و الذي نحتاج إلى أن نطعم به رؤيتنا ومشروعنا مما هو بين أيدينا و أهملناه بسبب الحزبية الذهنية و الجزمية الزائفة وخاصة بسبب الفارق في المستوى المعرفي للمقاربة بينه و بين الرواد الإصلاحيين، وفي كل خير، فلا يقوم المشروع بدون أحدهما.
كما قال أحدهم : "غن أخي الزارع [زارع الأفكار] لترشد بصوتك الخطوات التي تأتي في ظلمات الفجر، نحو ثلم الحرث الذي يأتي من بعيد...."
هذا ما سأحدثكم عنه ~ إن شاء الله ~ في الأيام القادمة تفصيلا
الشيخ مختار الطيباوي