موضوع: الحب الإلهي في رأي ابن تيمية 22/1/2016, 9:52 pm
طالما امتهن الناس مفهوم «الحبّ» وابتذلوه، وطالما تمندلوا به حتى أفسدوه وعكّروه! فاستحوذ «الحبّ» على حب الشهوات والملذات، واستحال الحبّ إلى عكوف على الأموال والرياسات، بل مسخوا الحبّ إلى عشق الفواحش والانكباب على القاذورات! وإذا كان سلفنا الصالح يقولون: لا بد عند حدوث المرتدين من وجود المحبّين المحبوبين ، فكذا يقال: عند وجود العقول المعيشية التي أشربت حظوظها الشهوانية تظهر العقول الزاكية التي تحب معالي الأمور وتكره سفسافها، كما في فتوحات هذا الإمام الرباني ابن تيمية الحرّاني، حيث انتشل مفهوم الحب من الضيق والحضيض، إلى أعلى المقامات وأشرفها وأرحبها.. فاستهلّ رسالته الفريدة، والموسومة بـ«قاعدة في المحبة» بأن أصل كل فعل وحركة في العالم من الحبّ والإرادة، فالحبّ أصل كل فعل ومبدؤه . هكذا يقرر أبو العباس ابن تيمية مفهوم «الحبّ» بكل رحابة فهم وسعة نظر، فالحبّ هو الباعث لجميع الأفعال والحركات، والأعمال والتصرّفات، في هذا العالم الفسيح. فكل شخص لا يفارق الحبّ والإرادة، فأصدق ما يسمى به كل إنسان أنه حارث وهمام، فلا ينفك عن همّ وإرادة، وحبّ وميل، لكن هذا الحب المشترك أو المحبة المطلقة لا توجب مدحًا، ولا تقتضي ثوابًا. كما قال ابن تيمية عن الصوفية: «يميل هؤلاء إلى سماع الشعر والأصوات التي تهيج المحبة المطلقة التي لا تختص بأهل الإيمان، بل يشترك فيها محب الرحمن، ومحب الأوثان، ومحب الصلبان، ومحب الأوطان، ومحب النسوان... . فالمحبة قد تكون أعظم القربات، وأشرف المقامات، وأرفع الدرجات، وقد تصير إلى أشنع السيئات، وأخسّ الحالات، وأحط الدركات، فالطبع الإنساني في الحب والإرادة ينبغي أن يكون متّسقًا ومنضبطًا بالشرع الإلهي. ولذا قال ابن تيمية: «كل محبة وإرادة لا يكون أصلها محبة الله وإرادة وجهه فهي باطلة فاسدة»، إلى أن قال: «وإذا كانت المحبة والإرادة أصل كل عمل وحركة، وأعظمها في الحق محبة الله وإرادته بعبادته وحده لا شريك له، وأعظمها في الباطل أن يتخذ الناس من دون الله أندادًا يحبونهم كحب الله... . وقال في كتاب آخر: «محبة الله بل محبة الله ورسوله من أعظم واجبات الإيمان، وأكبر أصوله، وأجلّ قواعده، بل هي أصل كل عمل من أعمال الإيمان والدين ، والحاصل أن محبة الله أعظم المقامات، فهي بمنزلة الرأس من الجسد، وفي المقابل فإن الإشراك في محبة الله هو أصل الإشراك في عبادته . ثم إن محبة الله تعالى يتفرع عنها حب وموالاة كل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال والأشخاص، كما أن الغيّ باتباع الشهوات والإغراق في الملذات هو متفرع عن حب غير الله، أو الإشراك في محبته تعالى . إن محبة الله - في الفتوحات التيمية - ليست مجرد وجدان لا يتجاوز الفؤاد، أو عاطفة لا تغادر اللسان، فكثيرًا ما قرّر أبو العباس التلازم بين المحبة القلبية وعمل الجوارح، والملازمات بين الباطن الظاهر، وأن المحبة التامة تقتضي عملًا ظاهرًا، وتوجب فعلًا واقعًا. فقال - رحمه الله -: «الحبّ التام منا مستلزم للإرادة التامة الموجبة للفعل مع القدرة، والبغض التام مستلزم للكراهة التامة المانعة للقدرة، فإذا كان العبد قادرًا على محبوبات الحق ولا يفعلها فلضعف محبتها في قلبه، أو وجود ما يعارض الحق.... وقال أيضًا: «ومعلوم أن الحب يحرك إرادة القلب، فكلما قويت المحبة في القلب طلب القلبُ فعلَ المحبوبات، فإذا كان العبد قادرًا عليها حصلها، وإن كان عاجزًا عنها ففعل ما يقدر عليه من ذلك كان له كأجر الفاعل..». وإذا كانت محبة الله تعالى تستلزم العمل، فإن محبة الله تقتضي متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، والجهاد في سبيل الله، بخلاف الصوفية الغلاة الذين يدعون محبة الله، ويهيمون في إنشاد القصيد في العشق والهيام والوله لرب العالمين، وهم في غاية الابتداع، والإحداث لما لم يشرعه الله، والنفرة والانقباض من شعيرة الجهاد. قال أبو العباس عن الصوفية: «وهؤلاء يدعون محبة الله في الابتداء، ويستحبون السماع بالغناء والدفوف، ويرونه قربة؛ لأن ذلك بزعمهم يحرك محبة الله في قلوبهم، وإذا حُقق أمرهم وجدتَ محبتهم تشبه محبة المشركين لا محبة الموحدين؛ فإن محبة الموحدين بمتابعة الرسول، والمجاهدة في سبيل الله قال تعالى: ﴿ قُلْ إن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ﴾ [آل عمران: 31]، وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْـمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [المائدة: 54]». وهؤلاء لا يحققون متابعة الرسول، ولا الجهاد في سبيل الله، بل كثير منهم - أو أكثرهم - يكرهون متابعة الرسول، وهم من أبعد الناس عن الجهاد في سبيل الله.. . ما أكثر الصوارف الحاضرة والشواغل المعاصرة التي تصد المرء عن المحبة التامة لله تعالى وحده، حيث تستحوذ محبة المال والرياسة ونحوهما على كثير من النفوس، وتستولي محبة الشهوات على فئام من الأشخاص، حتى تفضي بهم إلى عبادتها والعكوف عليها، وقد سطّر أبو العباس وصفًا دقيقًا، ونعتًا بليغًا عن تلك المحبوبات الصارفة، وما في هيمنة تصورها وسيطرة التفكير فيها من شرور ومفاسد.. فقال: «إن النفس التي لم تنجذب إلى محبة الله وعبادته انجذابًا تامًّا، ولا قام بها من خشية الله التامة ما يصرفها عن هواها متى صارت تحت صورة من الصور استولت تلك الصورة عليها، كما يستولي السبع على ما يفترسه، فالسبع يأخذ فريسته بالقهر، ولا تقدر الفريسة على الامتناع منه، كذلك ما يمثله الإنسان في قلبه من الصور المحبوبة تبتلع قلبه وتقهره، فلا يقدر قلبه على الامتناع منه. والقلب يغرق فيما يستولي عليه، إما من محبوب وإما من مخوف، كما يوجد من محبة المال والجاه والصور.. والقلب قد يغمره فيستولي عليه ما يحبه العبد، ولهذا قال تعالى: ﴿ بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ ﴾ [المؤمنون: 63] فهي فيما يغمرها عما أنذرت به، فيغمرها ذلك عن ذكر الله والدار الآخرة . وإذا كانت النفوس مجبولة على حبّ الشهوات، ثم يتبع ذلك تزيين الشيطان والنفس الأمارة بالسوء بالإفراط في حب الشهوات، وتعدي حدود الله، حتى يغرق الشخص في غمراتها وغفلاتها.. فلا بد من تحريك محبة الله في القلب وتقويتها، فإن من عمر قلبه بالحب الإلهي انزاح عن قلبه محبة ما سواه. وقد أوجز أبو العباس هذا الترياق فقال: «فإن قيل فالعبد في بعض الأحيان قد لا يكون عنده محبة تبعثه على طلب محبوبه، فأي شيء يحرك القلوب؟ قلنا: يحركها شيئان: أحدهما: كثرة الذكر للمحبوب؛ لأن كثرة ذكره تعلّق القلوب به، ولهذا أمر الله عزّ وجلّ بالذكر الكثير، فقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ﴾ [الأحزاب: 41، 42]. والثاني: مطالعة آلائه ونعمائه، قال الله تعالى: ﴿ فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الأعراف: 69]، وقال تعالى ﴿ وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ﴾ [النحل: 53]، وقال تعالى ﴿ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ﴾ [لقمان: 20] وأخيرًا، فإن علو الهمّة والترقي في منازل محبة الله تعالى لا يعارض المحبة الجبلية الجائزة بل يتفق معها، فلا حبّ لشهوات ورغبات توقع في ترك واجب أو فعل محرم، ولا رهبانية ولا تشدد يصادم الفطرة فيحرّم ما أحل الله من الطيبات، فأهل السنة وسط بين أهل الفجور الذين يقارفون الشهوات المحرمة، وأهل الرهبنة الذين يحرمون الحلال. قال ابن تيمية - في هذه المسألة -: «وكذلك الذي يحبّ الطعام والشراب والنساء فهذا محدود، وبه يصلح حال بني آدم، ولولا ذلك لما استقامت نفس الأنساب، ولا وُجدت الذرية، ولكن يجب العدل والقصد في ذلك، كما قال تعالى: ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا﴾ [الأعراف: 31]، وكما قال تعالى: ﴿ إلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ﴾ [المعارج: 30]. فإن تجاوز حدّ العدل - وهو المشروع - صار ظلمًا عاديًا بحسب ظلمه وعدوانه . اللهم إنا نسألك حبّك، وحب من يحبك، وحب العمل الذي يقربنا إلى حبك.