الحمد لله، وأفضل الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبعدُ: فما الأرض؟ ما السماء؟ ما الشمس؟ ما القمر؟ ما الضياء؟ ما الصبح؟ ما المساء؟ ما الجبال؟ ما الأنهار؟ ما الرياح؟ ما البحار؟ ما الأفلاك؟ ما الشموس؟ ما الأقمار؟ ما هي إلا عبدٌ يقف بين يدَي الجبار، في غاية الذِّلة والصَّغار، فما شيء نراه أو سمعناه، أو نحس به أو نلقاه، إلا وهو يعيش في كنف الله، فما أعظم الله! ومع هذه العظائم، تتوالى من الله المكارم، فيعلم فقر الأمة بجنب غنى النبي، فيتولى الصلاة على نبيِّه بنفسه؛ لأنها فوق طاقتنا فائدةً، وأعلى من مقامنا تأدية، وليس للنبي إلينا حاجة، ولكننا إليها في فاقة واحتياج، فصلى عليه الله، وما كلفنا إلا أن نردد اللفظ؛ لننال الأجر ونزداد، والله ولي السداد. من الآيات التي نتعبد اللهَ بتلاوتها آيةُ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وبين طيات هذه الآية نفحات لمحبِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم أحببت أن أذكرها، جمعتُها من أقوال علماء التفسير وغيرهم، وأدليت بدلوي معهم، راجيًا أن أنال بركة آية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ولم أذكر ما يتعلق بالآية الشريفة من الأحكام الفقهية التي خاض فيها العلماء قديمًا وحديثًا، وإلا لطال بنا المقام، وانخرم عنوان البحث بتقييده بالنفحات. قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56]. نفحة: حكم تكليفي وحيد أُمِرنا بأدائه، لم نقدر عليه، ولم نفهم معناه، فوكلناه إلى الله مرة أخرى ليؤدِّيه عنا. من المعلوم من الدين بالضرورة أن الله لا يكلف إلا بالمستطاع؛ قال تعالى: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ [البقرة: 286]، حتى قيل: إذا أردت أن تُطاع فأمُرْ بالمستطاع، وهذه قاعدة عامة في الأحكام جميعها، ومن العبث الذي لا يجوز في حقِّ الخالق أن يكلِّف عباده بأمر لا يقدرون عليه، والله أرحمُ بعباده من ذلك؛ جل جلاله، فأنت لا تجد عبدًا يكلفه الله بعبادة الحج مثلًا، فيقول بلسانٍ فصيح يؤجر عليه: يا رب، حُجَّ عني، أو: قم عني بعبادة الحج، وكذلك مَن خوطب بعبادة الزكاة فيقول: يا رب زكِّ عني، ومن يفعل ذلك فهو مجنون محض، يسقط عنه التكليف، أو هو منكر جاحد، فيستحق العقاب والعتاب والتوبيخ، فضلًا عن التعزير. ومع ذلك كلِّه كلفنا الله بعبادةٍ شرَّفَنا وأعلى مكانتَنا بها بين الأمم، ألا وهي عبادة الصلاة والسلام على الحبيب الشفيع محمَّد صلى الله عليه وسلم، ولو أنعَمْنا النظر في هذا الخطاب الرباني لوجَدناه خطابًا فريدًا لا يشبهه شيءٌ من لأحكام والتشريع والتكليف، فالله أمرنا بالصلاة والسلام على نبيه وصفيه محمد صلى الله عليه وسلم، وجاء ذلك بصيغة الأمر المحض، ولم يقترن بقرينة تَصرِف ذلك الأمر إلى غيره، كما هو معلوم لدى طلبة العلم وأهله، فهو حكمُ تكليفٍ يفيد الوجوب، فقد جاء باللفظ الصحيح الصريح القطعيِّ الدلالةِ والثبوت، وسبَقه بقوله جل وعلا وهو يخاطب المجتمع المؤمن بقوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ [الأحزاب: 56]، ومع ذلك كله نقول كما علَّمَنا النبيُّ الأعظم صلوات ربي وسلامه عليه عندما سأله الأصحاب: كيف نصلي عليك؟ فقال: ((قولوا: اللهم صلِّ على محمدٍ وأزواجه وذريته، كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمدٍ وأزواجه وذريته، كما باركتَ على آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيدٌ)). وعن كعب بن عُجْرة رضي الله عنه، قيل: يا رسول الله، أما السلام عليك فقد عرَفناه، فكيف الصلاة عليك؟ قال: ((قولوا: اللهم صل على محمدٍ وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم؛ إنك حميدٌ مجيد، اللهم بارك على محمدٍ وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم؛ إنك حميدٌ مجيد)). فعلَّمنا أن نرجع الأمرَ إليه مرة أخرى فنقول: "اللهم صل"، من يقوم بالصلاة؟ نحن! من كلفنا بذلك؟ أم نقول: يا رب، أنت صل على سيدنا محمد، من نحن لكي نصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فنرفع مِن قدره ومنزلته عند الله؟! لا والله، لا ينبغي هذا لمسلم عاقل، وإنما نتأدب بأدب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونوكل الأمر إلى الله، فنطلب منه أن يصلي على نبيه، فيرفَع قدره ومكانته عنده هو جل جلاله. ومِن الملاحظ في هذه الآية أنَّا أُمرنا في هذه الآية بأمرين: الأول: نفهم معناه ونَقْدر على تأديته؛ ألا وهو السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم أيًّا كان معناه، سواء كان بإلقاء التحية عليه، أو الانقياد له، وهو ما نبينه لاحقًا إن شاء الله. والثاني: أوكلناه لربِّ العزة؛ ألا وهو الصلاة عليه، وهذا ما فهمه الأصحاب رضي الله عنهم، فقالوا: "أما السلام عليك فقد عرفناه، فكيف الصلاة عليك؟". قال الصاوي: وحكمة صلاة الملائكة والمؤمنين على النبي صلى الله عليه وسلم تشريفهم بذلك؛ حيث اقتدَوا بالله جل وعلا في الصلاة عليه وتعظيمه، ومكافأة لبعض حقوقه على الخلق؛ لأنه الواسطةُ العُظمى في كل نعمة وصلَت لهم، وحقٌّ على من وصل له نعمة مِن شخص أن يكافئه، ولما كان الخلق عاجزين عن مكافأته صلى الله عليه وسلم طلبوا مِن القادر الملِك أن يكافئه، وهذا هو السر في قولهم: "اللهم صل على محمد". قال الشعراوي: أما الصلاة من المؤمنين فهي الاستغفار، واستغفارهم ليس لرسول الله، إنما هو استغفارهم لأنفسهم؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء رحمةً لهم، وما دام جاء رحمةً لهم كان من الواجب ألا يغيب توقيرُه عن بالهم أبدًا، فهم إن استغفَروا فاستغفارٌ عن الغفلة عنه صلى الله عليه وسلم، أو عن أنهم لم يتقدَّم اسمُه، فيُصلون عليه، والمؤمن حين يصلي على رسول الله ماذا يملك من عطاءٍ يؤديه لرسول الله؟ ماذا بأيدينا؟ لذلك تأمَّل لفظ صلاتك على رسول الله؛ إنك لا تقول: أصلِّي، ولكن تقول: اللهم صل على محمد، أو صلى الله على محمد، فتطلب ممن هو أعلى منك أن يصلي على رسول الله؛ لأنه لا يوجد عطاء عندك تؤديه لرسول الله. نفحة: عبادة وحيدة أمَرنا الله بها فأشرَكَنا فيها مع ملائكته المقربين ظاهرًا على اختلاف معناها عنده، فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ﴾ [الأحزاب: 56]، حتى شاع على لسان الخطباء قولُهم: واعلموا أن الله أمرَنا أمرًا ابتدَأ فيه بنفسه، وثنَّى بملائكة قدسه، وثلَّث بكم من عالمَيْ جِنِّه وإنسه، فقال قولًا كريمًا؛ تعظيمًا لقدر نبينا وتعليمًا لنا وتفهيمًا: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56]، وإن كان مفهوم الصلاة ليس بمعنى واحد؛ كما فصَّل ذلك العلماء في كتبهم رحمهم الله تعالى. نفحة: قوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ ﴾ [الأحزاب: 56]، لماذا لم يقل: الله يصلي، والملائكة يصلون؟ وهو أدب المخلوق مع الخالق.
قال الشعراوي: وتلحظ أن الخبر ﴿ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ﴾ [الأحزاب: 56] خبرٌ عن الله والملائكة، فجمع الحق سبحانه بين صلاته وصلاة ملائكته، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم سمع مرة خطيبًا يخطب، يقول: من يتَّق الله ورسولَه يُثِبه الله، ومن يَعصِهما يُعاقبه الله، فقال صلى الله عليه وسلم له: ((بئس الخطيب أنت، قل: ومَن يعص الله ورسوله)). لماذا؟ قالوا: لأنه جمَع بين الله تعالى ورسوله في: "ومن يعصهما"، وكان عليه أن يقول: ومَن يعصِ الله ورسوله، فالله وحده هو الذي يجمَع معه سبحانه مَن يشاء؛ قال سبحانه: ﴿ وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ ﴾ [التوبة: 74]، أمَّا نحن فليس لنا أبدًا أن نأتي بصيغة تشريكيَّة بين الله تعالى وأحدٍ من خَلْقه. وقوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56]؛ هكذا قال الله، وجمَع معه سبحانه مَن يشاء من خَلْقه، وأنت لا يجوز لك أن تجمعَ هذا الجمع إلا إذا كنتَ تقرؤه على أنه قرآن، فإن أردتَ أن تُنشئ كلامًا من عندك فلا بد أن تقول: الله يُصلِّي على النبي، والملائكة يُصلُّون على النبي؛ لذلك احتاط علماء التفسير لهذه المسألة فقالوا: إنَّ ﴿ يُصَلُّونَ ﴾ [الأحزاب: 56] ليست خبرًا للكلِّ، إنما تقدير الخبر أن الله يصلي على النبي، والملائكة يُصلُّون على النبي، وإذا كان الله يُصلِّي على النبي، والملائكة يُصلُّون على النبي فماذا عنكم أنتم؟ يجب أن تُصلوا أنتم كذلك على النبي؛ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56]. نفحة: ومن نفحات هذه الآية أن الله لم يقل: إنه يصلي على (محمد)، بل قال: ﴿ عَلَى النَّبِيِّ﴾ [الأحزاب: 56]: وهذا مِن علوِّ شأنه صلى الله عليه وسلم، فلو استقرأتَ القرآن تجد أن الله لم يَذكر لنا اسمَ النبي إلا في خمسة مواطن، ولم تكن على سبيل الإنشاء، وإنما كانت على سبيل الإخبار، وإذا ذكَره باسمه ألحقَ به وصف النبوة والرسالة تصريحًا أو تلميحًا، وإلا كان خطابه صلى الله عليه وسلم عمومًا بلفظ: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ ﴾ [الأنفال: 64]، و﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ ﴾ [المائدة: 41]، دون غيره من الأنبياء؛ فهم يُخاطَبون بأسمائهم الصريحة: ﴿ يَا آدَمُ ﴾ [البقرة: 33]، ﴿ يَا نُوحُ ﴾ [هود: 46]، ﴿يَا عِيسَى ﴾ [آل عمران: 55]، ﴿ يَا مُوسَى ﴾ [الأعراف: 144]... وكذا الحال مع باقي الأنبياء عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام. قال تعالى: ﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ﴾ [آل عمران: 144]، ﴿ مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 40]، ﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الفتح: 29]. ﴿ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ﴾ [الصف: 6]، ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ﴾ [محمد: 2]. نفحة: قوله: ﴿ عَلَى النَّبِيِّ ﴾ [الأحزاب: 56]: قال الآلوسي: عُدِّي بـ(على) لا لاعتبار معنى القضاء؛ أي: قضى الله تعالى عليك السلام كما قيل؛ لأن القضاء كالدعاء لا يتعدى بـ(على) للنفع، ولا لتضمُّنه معنى الولاية والاستيلاء؛ لبُعده في هذا الوجه. أقول: واستخدم (على) دون غيره: كـ(اللام)؛ لعلوِّ مكانته ورفعة شأنه بمعنى الاستعلاء، وهذا من معاني (على) كما هو معروفٌ عند أهل الصَّنعة، وهو أصل معناها، فعلَّمَنا اللهُ أن نقول: "اللهم صلِّ على النبي"، ولم يقل: "للنبي"، أو غير ذلك. نفحة: قوله: ﴿ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56]: عن كعب بن عُجرة رضي الله عنه، قيل: يا رسول الله، أما السلام عليك فقد عرفناه، فكيف الصلاة عليك؟ قال: ((قولوا: اللهم صل على محمدٍ وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم؛ إنك حميدٌ مجيد، اللهم بارك على محمدٍ وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميدٌ مَجيد)). اختلف علماء التفسير في معنى السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم على أقوال؛ منها: قال الطبري (310هـ): "أي: حيُّوه بتحية الإسلام"، وتبعه البغويُّ (516هـ)، والخازنُ (741هـ) قال الماورديُّ (450هـ): يَحتمل وجهين: أحدهما: سلِّموا لأمره بالطاعة له تسليمًا. الثاني: وسلموا عليه الدعاء له تسليمًا؛ أي: سلامًا. قال القرطبي (671هـ): قال القاضي أبو بكر بن بكير: نزلَت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم، فأمَر الله أصحابه أن يسلموا عليه، وكذلك مَن بعدهم أُمروا أن يسلموا عليه عند حضورهم قبرَه وعند ذكره؛ قال القشيري: والتسليم قولك: سلامٌ عليك قال البيضاوي (685هـ): وقولوا: السلام عليك أيها النبي. وقيل: وانقادوا لأوامره. قال النَّسفي (701هـ): أي قولوا: اللهم سلم على محمد، أو انقادوا لأمره وحكمه انقيادًا قال ابن جُزيٍّ الكلبي (741هـ): أما السلام على النبي صلى الله عليه وسلم فيَحتمِل أن يريد السلام عليه في التشهد في الصلاة، أو السلام عليه حين لقائه، وأما السلام عليه بعد موته فقد قال صلى الله عليه وسلم: ((من سلم عليَّ قريبًا سمعتُه، ومن سلم عليَّ بعيدًا أُبلِغتُه))؛ فإن الله حرَّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء قال ابن كثير (774هـ): فالأولى أن يُقال: صلى الله عليه وسلم تسليمًا. قال ابن عادل الدمشقي (880هـ): وسلموا تسليمًا "أمرٌ، فيجب السلام ولم يجب في غير الصلاة فيجب فيها، وهو قولنا في التشهد: السلام عليك أيها النبي". قال الشربيني (977هـ): حيُّوه بتحية الإسلام، وأظهِروا شرفه بكل ما تصل قدرتكم إليه؛ مِن حُسن متابعته، وكثرة الثناء الحسن عليه، والانقياد لأمره في كل ما يأمر به، ومنه الصلاة والسلام عليه بألسنتكم. قال أبو السعود (982هـ): وسلِّموا تسليمًا؛ قائلين: اللهم صل على محمد وسلم، أو نحو ذلك، وقيل: المراد بالتسليم: انقياد أمره. قال الألوسي (1270هـ): وفي معنى السلام ثلاثة أقوال: أحدها: السلامة من النقائص والآفات لك ومعك؛ أي: مصاحبة وملازمة، فيكون السلام مصدرًا بمعنى السلامة؛ كاللذاذ واللذاذة، والملام والملامة، ثانيها: السلام مُداوم على حفظه قال الشعراوي: ولم يَقُل سبحانه: ويسلمون، فلما أمر المؤمنين قال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56] فزاد: ﴿ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56]، قال العلماء: لأن الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تكون إلا مع التسليم له؛ بمعنى: طاعته والإذعان لأمره، وأن تُسْلِم زمامك له في كل صغيرة وكبيرة، وإلَّا فكيف تُصلِّي عليه وأنت تَعصي أوامرَه، وقد قال تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [النساء: 65]؟! ومِن معاني التسليم أن نقول: السلام عليك أيها النبي؛ كما نقول في التشهُّد، والسلام: اسمٌ من أسماء الله، ومعنى: السلام عليك يا رسول الله؛ أي: جعَل الله لك وقاية، فلا يَنالك أحدٌ بسوء. تبيَّن مما سبق من أقوال علماء التفسير: أن المراد من قوله: ﴿ تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56] هو: إما إلقاء التحية والسلام في التشهد أو خارجَه، في حياته وبعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى، صلوات ربي وسلامه عليه، وإما بمعنى: الانقياد والطاعة لأوامره وحكمه، أو بمعنى قولوا في صلاتكم عليه: "وسلِّم تسليمًا"، أو بمعنى: السلامة من النقائص والآفات لك ومعك؛ أي: مصاحبة وملازمة، فيكون السلام مصدرًا بمعنى السلامة، أو بمعنى: جعل الله لك وقاية، فلا ينالك أحد بسوء. أقول: ولا مُنافاة بين الكل، والله أعلم بالصواب. نفحة: لماذا أُكِّد السلامُ بالمفعول المطلق، ولم تؤكَّد الصلاة؟
قوله: ﴿ وَسَلِّمُوا ﴾: أمر، و﴿ تَسْلِيمًا ﴾: مفعول مطلق منصوب؛ وذلك لأن الصلاة أكِّدت بالجملة التي سبقَت والتي نصَّت على صلاة الله وصلاة الملائكة، والتي أُكِّدت بحرف ﴿ إنَّ ﴾، فلا يحتاج أن تؤكد الصلاة، بخلاف السلام الذي احتاج إلى التأكيد بالمفعول المطلق، والله أعلم بالصواب. قال ابن عادل الدمشقي: وذكَر في السلام المصدر للتأكيد، ولم يُؤكِّد الصلاة؛ لأنها كانت مؤكَّدة بقوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ﴾ [الأحزاب: 56]. نفحة: الجملة الاسمية والفعلية الملاحظ أن هذه الآية ابتدأت بالجملة الاسمية، وانتهت بالجملة الفعلية، والجملة الاسمية تُفيد الثبوت والاستقرار، والفعلية تفيد الحدوث والتجدد وعدم الاستقرار. قال محمد عبدالمنعم خفاجي:"فالجملة الاسمية تفيد بأصلِ وضعها الثبوت؛ أي: حصول المسنَد للمسند إليه، من غير دلالة على تقييده بالزمان، وقد تُفيد الدوام بالقرينة، ومن حيث العدولُ عن الفعل إليها، فالقرينة كما في مقام المدح أو الذم أو ما أشبه ذلك مما يناسبه الدوامُ والثبوت، فالاسم كعالم يدلُّ على ثبوت العلم للذي يدل به عليه، وليس فيه تعرُّض لحدوثه أصلًا؛ سواء كان على سبيل التجدد والتقضي، أو لا، وأما الدوام فإنما يُستفاد من مقام المدح والمبالغة، لا من جوهر اللفظ، والجملة الفعلية تفيد الحدوث - أي: حدوثه شيئًا بعد شيء على وجه الاستمرار - والتجدد؛ أي: تجدد الحدوث وعدم الاستقرار". وكأن الله يقول لنا: يا أمة محمد، صلاتي على نبيكم ثابتة؛ فمقامه معلومٌ عندي، وأما أنتم فتحتاجون إلى الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لترتفع منزلتكم، فتحتاجون إلى المداومة والاستمرار عليها، فجاءت بالجملة الفعلية لا الاسمية. نفحة: ومِن فضل الله على أمة محمد صلى الله عليه وسلم أنَّ من صلى على رسوله مرة صلى الله عليه بها عشرًا: فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن صلى عليَّ واحدةً صلى الله عليه عشرًا))، وكان هذا سببًا في سجوده صلى الله عليه وسلم شكرًا لله؛ فعن عبدالرحمن بن عوف، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوجه نحو صدقتِه، فدخل فاستقبل القبلة، فخر ساجدًا، فأطال السجود حتى ظننتُ أن الله عز وجل قد قبَض نفسه فيها، فدنوتُ منه فجلست، فرفع رأسه فقال: ((مَن هذا؟)) قلتُ: عبدالرحمن، قال: ((ما شأنك؟)) قلت: يا رسول الله، سجدتَ سجدةً خشيتُ أن يكون الله عز وجل قد قبض نفسك فيها، فقال: ((إن جبريل عليه السلام أتاني فبشَّرني فقال: إن الله عز وجل يقول: مَن صلى عليك صليتُ عليه، ومن سلم عليك سلمتُ عليه، فسجدتُ لله عز وجل شكرًا)) فمن صلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة صلى الله عليه بها عشرًا، ومعنى صلاة الله على عباده هو أن يُخرجهم من الظلمات إلى النور بنصِّ صريح الكتاب. قال مُقاتل: لما نزَلَت هذه الآية قال المسلمون: فما لنا يا رسول الله؟ فنزلت: ﴿ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ ﴾ [الأحزاب: 43]. وإذا أردتَ أن تخرج من الظلمات إلى النور فأكثِر من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم.