حكمة الله تعالى في التشريع
عرَّفنا ربُّنا تبارك وتعالى في هذه الآية التي ختم بها هذه السورة العظيمة سورة البقرة أنه سبحانه لا يكلِّف في تشريعه نفسًا إلا ما في وسعها، فلا يكلف أحدًا فوق ذلك، وعلَّم الله تعالى صحابة رسوله صلى الله عليه وسلم أن يدعوه في بقية الآية بما ذكر فيها، وأعلمنا رسولنا صلى الله عليه وسلم في الأحاديث أن الله قال عندما دعوه: نعم، أي: قد استجبت لكم، وهذه الآية تعرَّفنا بالمنهج الذي أظهر الله حكمته في التشريع الذي شرعه لهذه الأمة.وقد أخبرنا رسولنا صلى الله عليه وسلم أن آية هذا الموضع والآية التي قبلها فيهما فضلٌ عظيم وثوابٌ جزيل، فمن ذلك:
1- ما أخبرنا رسولنا صلى الله عليه وسلم أن نورهما أحد نورين أوتيهما رسولنا صلى الله عليه وسلم لم يؤتهما نبيٌّ قبله، فعن ابن عباس قال: «بينما جبريل قاعدٌ عند النبي صلى الله عليه وسلم سمع نقيضًا من فوقه، فرفع رأسه، فقال: هذا بابٌ من السماء فتح اليوم، لم يفتح قط إلا اليوم، فنزل منه ملكٌ، فقال: هذا ملكٌ نزل إلى الأرض، لم ينزل قط إلا اليوم، فسلَّم وقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبيٌّ قبلك، فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ بحرفٍ منهما إلا أعطيته» [مسلم: 806].
2- أخبرنا رسولنا صلى الله عليه وسلم أن من قرأ بالآيتين الأخيرتين من سورة البقرة في ليلةٍ كفتاه، فعن أبي مسعود قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلةٍ كفتاه»[البخاري: 5009، مسلم: 807، 808].
3- هاتان الآيتان أنزلهما الله من كتابٍ كتبه قبل خلقه السموات والأرض بألفي عامٍ، فعن النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ الله كتب كتابًا قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام، أنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرةن ولا يقرآن في دارٍ ثلاث ليالٍ فيقربها شيطان»[الترمذي: 2882، وقال فيه: هذا حديث حسن غريب، صحيح الترمذي للألباني: 2311].
ثانيًا: آية هذا الموضع من سورة البقرة
{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ربُّنا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ربُّنا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا ربُّنا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 286].
ثالثًا: تفسير مفردات هذه الآية
لا يكلِّف: التكاليف ما أمرنا الله تعالى به، ونهانا عنه.وسعها: طاقتها.لها ما كسبت، أي: من خير.وعليها ما اكتسبت، أي: من الشرِّ.نسينا، أي: ما تركناه أو فعلناه من عملٍ من غير قصدٍ.إصرًا: الآصار الأثقال التي كلف الله بعض الأمم من قبلنا بها.ولا تحمِّلنا، أي: لا تكلِّفنا بما لا نطيقه.مولانا: إلهنا وناصرنا ومؤيدنا.
رابعًا: شرح هذه الآية التي عرَّفنا فيها ربُّنا بنفسه
عرَّفنا ربُّنا في هذه الآية أنه {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} أي: لا يكلف نفسًا فوق طاقتها، وهذا من رحمته سبحانه بعباده، ولطفه بهم، وقرَّر- سبحانه- في هذه الآية أنَّ لكلِّ نفس ما كسبته من خير، وعليها ما اكتسبته من شرٍّ، وهذا في الأعمال الظاهرة التي يطيق العباد التحكم بها كالصلاة والصوم والزكاة والحج والجهاد، {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}.
وأعلمنا ربنا بما يقوله عباده في دعائهم ربَّهم، فقد أعلمنا أنهم يقولون في دعائهم: {ربُّنا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ربُّنا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا ربُّنا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا}.
أي: يقولون: يا رَبَّنا لا تؤاخذنا إن نسينا شيئًا مما فرضته علينا، كالذي ينسى صلاةً، أو ركعةً من الصلاة، أو طوافًا بالبيت أو شوطًا في السعي، أو نحو ذلك، ولا تؤاخذنا إن أخطأنا، كالذي لا يهتدي إلى وجه الصواب فيما كلف به من أعمال، دعا الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه بهذا الدعاء فقال الله: «نعم» أي: لا أؤاخذكم بذلك، ومن دعائهم قولهم: {وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} أي: «لا تحمل علينا إصرًا يثقلُ علينا كما حملته على الذين من قبلنا، نحو أمر نبي إسرائيل بقتل أنفسهم، أي: لا تمتحنا بما يثقل» [معاني القرآن، للزجاج: 1/ 371] والإصر: الأثقال التي تثبط عن الخيرات.
وقد أخبرنا رسولنا صلى الله عليه وسلم أنَّ ربَّنا استجابَ دعاء رسوله صلى الله عليه وسلم ودعاء أصحابه، فلم يحمل علينا الآصار والأغلال التي حملها على الذين من قبلنا، ودعوا ربهم أن لا يحملهم ما لا طاقة لهم به، ودعوه أن يعفو عنهم ويغفر لهم، وقالوا في ختام هذا الدعاء الطيب المبارك: {أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} أي: ناصرنا، ومتولي أمورنا، فانصرنا على الكفرة المشركين الذين رفضوا دينك، وأعرضوا عن كتباك، وحاربوا رسولك.وقد جاءت أحاديث كثيرة تدلُّ على ما تضمنته هاتان الآيتان الكريمتان، من صفة التكاليف التي كلف الله بها عباده:أ- فعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا أو يعملوا به» [مسلم: 127].
ب-وعن أبي هريرة أيضًا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«قال الله عزَّ وجلَّ: إذا أراد عبدي أن يعمل سيئةً، فلا تكتبوها عليه حتى يعملها، فإن عملها فاكتبوها بمثلها، وإن تركها من أجلَّي فاكتبوها له حسنة، وإذا أراد أن يعمل حسنة فلم يعملها فاكتبوها حسنة، فإن عملها فاكتبوها له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف» [البخاري: 7501، مسلم: 128].
ج- عن أبي هريرة قال: جاء ناسٌ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قال: «وقد وجدتموه؟» قالوا: نعم، قال: «ذلك صريح الإيمان» [مسلم: 132].
د- وعن عبد الله قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوسوسة، قال: «تلك محض الإيمان»[مسلم: 133].
ه- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يأتي الشيطان أحدكم، فيقول: من خلق كذا، من خلق كذا، حتى يقول: من خلق ربك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته» [البخاري: 3276، مسلم: 134].وهذه الأحاديث تدلُّ على عدم مؤاخذة الله إيانا بما حدثتنا به أنفسنا ما لم نتكلم أو نعمل، وأنه لا يؤاخذ المؤمنين بما وسوست به الشياطين، وسمَّى دفع هذه الوسوسة: صريح الإيمان ومحض الإيمان.
خامساً: كيف عرَّفنا ربُّنا بنفسه في هذه الآية الكريمة
عرَّفنا ربُّنا- عزَّ وجلَّ- في هذه الآية أنه سبحانه:1- رحيمٌ بعباده، شفيقٌ بهم، لا يكلفهم فوق ما يطيقون، ولا يحاسبهم إلا على ما عملوه، من خيرٍ أو شرٍّ.2- شرع الله هذا الدين الذي أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم ليس فيه شيء من الآصار والأغلال التي حملها اليهود من قبلنا، فقاعدة الحلال والحرام في ديننا: إحلال الطيبات وتحريم الخبائث.3- لا يكلف عباده بما نسوه أو أخطئوا بفعله.4- عفو من عباده المؤمنين، يغفر لهم ذنوبهم، ويرحمهم.