السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
القادمون من المستقبل
(من قصص الخيال العلمي)
بقلم الكاتب: د. طالب عمران
كان يقطع الطريق بسيارته، وقد بدأ الغروب يلقي شيئاً من ظلاله المعتمة على الأشجار والتلال الصغيرة وقد شعر بالانقباض وهو يتأمل الطريق الملتوي أمامه يطيع مع الظلال ولا يرى له نهاية..
شرد يفكر بحياته، وقد زادته الوحشة اكتئاباً ولا أثر لسيارة عابرة أو لمخلوق يتحرك حوله.. كان يعمل في الجامعة أستاذاً لمادة التاريخ، ويعاني كثيراً في السنوات الأخيرة وهو يشهد الكوارث والمآسي وطغيان دولة متجبرة عظمى، يتحكم فيها مجموعة من الحمقى الذين كأنهم قرروا دمار العالم..
كان حدث الحادي عشر من الشهر التاسع، قد قلب كل شيء في العالم، وأصبح الإنسان تحت رحمة حصار متنوّع طال حتى أحلامه وأمانيه..
تزوج مرّة واحدة في حياته، ولم يكن زواجاً موفقاً تحكّم أهلها بها، لدرجة أنها كانت تأخذ رأي أختها بنوعية الأكل الذي تعده لـه.. وظلت الفجوة بينهما تكبر حتى صحت يوماً على قراره بالانفصال عنها..
ودون أن تدرك خطورة الأمر، تعاونت وأخواتها وأهلها، للسطو على كل ما يملكه، حتى غدا لا يملك شيئاً، تسلطت على البيت والسيارة والمكتبة التي كانت ملجأ الأمان عنده..
ونصحه أصدقاؤه بالسفر إلى دولة خليجيّة لترميم وضعه المادي، وحين عاد بعد أربع سنوات، بدأ يحاول تكوين حياته من جديد.. وكثرت العيون التي تراقبه، وتحثه على الزواج من جديد.. ولكنه كان يرفض الفكرة.. وجد أن العالم تغيّر.. وعرف أن زوجته السابقة، لم تتزوج من جديد، وأن الحزن أصابها، والندم أصبح هذياناً عندها، وقد راجعت حياتها معه فلم تجد سوى الطيبة والحنان والصبر..
شاركها أخواتها في بعض ما سلبته منه، ثم تركوها تجتر أحزانها وذكرياتها دون أن يتقدم أحد للزواج منها من جديد..
كانت قد باعت كتب المكتبة ـ بنصيحة من أختها الكبرى ـ لتأجر كتب، يوزع كتبه لبيعها على أرصفة الشوارع، ومن بينها كتبه التي ألفها وكانت تلقى رواجاً لدى القراء.. فبدأت تحاول أن تدخل في دائرة القراءة، وساومت تاجر الكتب على استرجاع الكتب التي باعتها بثمن بخس..
وأين لتأجر لا يهتم سوى بالمال، أن يدلها على الكتب التي وزعها، وهو لا يعرف عناوينها ولا كتابّها.. ولكنه تظاهر بمعرفته لها، وبدأ يبيعها كتباً متنوعة زعم أنها كانت في المكتبة، ورأت نفسها بعد زمن قصير تملأ واجهات المكتبة الفارغة بعناوين وبكتب عن التاريخ والعلم والدين..
كان عامر يتذكر كل ذلك، دون أن يشعر بالشفقة والرثاء لها، رغم كل التغيير الذي طرأ عليها، فلم يكن يرغب بإعادتها، وقد شعر يوماً أنها تدمره من الداخل, وتقوّض إنسانيته بتصرفاتها وأنانيتها المرعبة..
أوصلوا له كل تلك المعلومات عنها، على أمل أن يعيد حساباته، لإعادتها ولكنه كان مدمناً على اليأس في زمن مظلم يعمّ الكوكب برمته..
بدأت العتمة تغمر المكان، فأشعل مصابيح السيارة وزاد من سرعة السيارة التي بدأت تدخل طريقاً منبسطاً واسعاً على طرف مدينة صغيرة، ارتبط اسمها باسم أحد ملوك العرب من قديم..
اجتاز المدينة الصغيرة بأضوائها الخافتة، ولم يرغب بالاستراحة فأمامه أكثر من ساعة للوصول إلى البلدة الصغيرة التي يقصدها على أطراف البادية..
وبعد عدّة كيلو مترات من البلدة، كشفت لـه أضواء المصابيح وجود أشباح تتمايل على الطريق أمامه.. ثم اختفت فجأة.. خفّف من سرعته وتابع طريقه..
وفجأة خرج رجل بلباس غريب، يتمايل ثم سقط وسط الطريق.. أوقف عامر سيارته على بعد خطوات منه، وترك محركها دائراً وأضواء المصابيح تكشف لـه كل شيء.. باتساع رقعة الإضاءة.. اقترب من الرجل بحذر، كان منكفئاً على بطنه، قلبه على ظهره، فرأى وجهاً لكهل بلحية قصيرة بيضاء.. يطلق تمتمات غير مفهومة.. وهو يتأوّه متألّماً..
ـ ما بك يا عمّ؟ ما الذي أصابك؟
ـ آه.. أنا.. أموت.. أموت.. آه..
ـ هل أنقلك إلى المستشفى؟ أنت مريض؟ ما بك؟
ردّد: أنا.. أنا.. آه..
شعر أنّه بحاجة لمساعدة بدت لـه حالته سيئة.. سمع نهيق حمار.. كان لأحد القرويين الذي توقّف إلى جانبه..
ـ خير؟ هل صدمته بالسيارة؟
ـ لا.. لا.. رأيته أمامي على الطريق..
قال الرجل: ـ سأربط الحمار بهذه الشجرة القصيرة وآتي إليك..
ـ حالته تسوء، إنه يرتعش..
ـ ما هذا اللباس الذي يرتدي؟
ـ أتعرفه.؟ دقق في وجهه جيداً..
ـ لا.. لم أره في حياتي، بالتأكيد هو ليس من بلدتنا..
ـ أرجوك ساعدني لأمدده في السيارة وننقله إلى المستشفى، عندكم مستشفى بالتأكيد؟
ـ لا.. مع الأسف.. لدينا مستوصف، لا يداوم فيه الطبيب سوى في الصباح، ولكن قد يستقبل الحالات الطارئة، إذا أحضر الطبيب والممرضة والعامل الصحي في بيوتهم..
ـ أتعرف بيت الطبيب؟
ـ نعم.. إنه في وسط البلدة، في الشارع الرئيسي نفسه.. هناك يافطة باسمه، اسمه الدكتور (سمير)..
ـ هل سترافقني إلى هناك؟
ـ وماذا أفعل بالحمار، ربما تفترسه الوحوش.. وهو يحمل على ظهره خرجاً فيه خضراوات وفواكه..
ـ لا بأس.. سأحاول الوصول إلى بيت الطبيب..
ـ قد ألحق بك بعد أن أوصل الحمار إلى بيتي..
انطلق الدكتور عامر بسيارته عائداً في اتجاه البلدة، والكهل الغريب يرتعش وهو يتأوّه في المقعد الخلفي للسيارة..
كان يسير ببطء وقد بدأ بدخول البلدة، وهو يدقق في اليافطات من حوله، حتى لمح يافطة الطبيب.. فأوقف السيارة قرب البيت.. وأطلق زمور السيارة عسى أن يخرج أحد لمساعدته.. وفعلاً خرج له رجل من إحدى الزوايا..
يتبـــع