د الرحمن بن عمرو بن يحمد ، شيخ الإسلام ، وعالم أهل الشام ، أبو عمرو الأوزاعي .
كان يسكن بمحلة الأوزاع ، وهي العقيبة الصغيرة ظاهر باب الفراديس بدمشق ، ثم تحول إلى بيروت مرابطا بها إلى أن مات .
وقيل : كان مولده ببعلبك . [ ص: 108 ]
حدث عن : عطاء بن أبي رباح ، وأبي جعفر الباقر ، وعمرو بن شعيب ، ومكحول ، وقتادة ، والقاسم بن مخيمرة ، وربيعة بن يزيد القصير ، وبلال بن سعد ، والزهري ، وعبدة بن أبي لبابة ، ويحيى بن أبي كثير ، وأبي كثير السحيمي اليمامي ، وحسان بن عطية ، إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر ، ومطعم بن المقدام ، وعمير بن هانئ العنسي ، ويونس بن ميسرة ومحمد بن إبراهيم التيمي ، وعبد الله بن عامر اليحصبي ، وإسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ، والحارث بن يزيد الحضرمي .
وحفص بن عنان ، وسالم بن عبد الله المحاربي ، وسليمان بن حبيب المحاربي ، وشداد أبي عمار ، وعبد الله بن عبيد بن عمير ، وعبد الرحمن بن القاسم ، وعبد الواحد بن قيس ، وأبي النجاشي عطاء بن صهيب ، وعطاء الخراساني ، وعكرمة بن خالد ، وعلقمة بن مرثد ، ومحمد بن سيرين ، وابن المنكدر ، وميمون بن مهران ، ونافع مولى ابن عمر ، والوليد بن هشام ، وخلق كثير من التابعين ، وغيرهم .
وكان مولده في حياة الصحابة .
روى عنه : ابن شهاب الزهري ، ويحيى بن أبي كثير - وهما من شيوخه - وشعبة ، والثوري ، ويونس بن يزيد ، وعبد الله بن العلاء بن زبر ، ومالك ، وسعيد بن عبد العزيز ، وابن المبارك ، وأبو إسحاق الفزاري ، وإسماعيل بن عياش ، ويحيى بن حمزة القاضي ، وبقية بن الوليد ، والوليد بن مسلم ، والمعافى بن عمران ، ومحمد بن شعيب ، وشعيب بن إسحاق ، ويحيى القطان ، وعيسى بن يونس ، والهقل بن زياد ، ومحمد بن يوسف الفريابي ، وأبو المغيرة الحمصي ، وأبو عاصم النبيل ، ومحمد بن كثير المصيصي ، وعمرو بن عبد الواحد ، ويحيى البابلتي ، والوليد بن مزيد العذري ، وخلق كثير . [ ص: 109 ]
قال محمد بن سعد : الأوزاع بطن من همدان ، وهو من أنفسهم ، وكان ثقة . قال : وولد سنة ثمان وثمانين ، وكان خيرا ، فاضلا ، مأمونا كثير العلم والحديث والفقه ، حجة . توفي سنة سبع وخمسين ومائة . وأما البخاري فقال : لم يكن من الأوزاع بل نزل فيهم .
قال الهيثم بن خارجة : سمعت أصحابنا يقولون : ليس هو من الأوزاع ، هو ابن عم يحيى بن أبي عمرو السيباني لحا ، إنما كان ينزل قرية الأوزاع ، إذا خرجت من باب الفراديس .
قال ضمرة بن ربيعة : الأوزاع : اسم وقع على موضع مشهور بربض دمشق ، سمي بذلك ; لأنه سكنه بقايا من قبائل شتى ، والأوزاع : الفرق ، تقول : وزعته ، أي : فرقته .
قال أبو زرعة الدمشقي : اسم الأوزاعي : عبد العزيز بن عمرو بن أبي عمرو ، فسمى نفسه عبد الرحمن ، وكان أصله من سبي السند ، نزل في الأوزاع ، فغلب عليه ذلك ، وكان فقيه أهل الشام ، وكانت صنعته الكتابة والترسل ، ورسائله تؤثر .
قال أبو مسهر وطائفة : ولد سنة ثمان وثمانين ضمرة : سمعت الأوزاعي يقول : كنت محتلما ، أو شبيها بالمحتلم في خلافة عمر بن عبد العزيز . وشذ محمد بن شعيب ، عن الأوزاعي ، فقال : مولدي سنة ثلاث [ ص: 110 ] وتسعين فهذا خطأ .
قال الوليد بن مزيد : مولده ببعلبك ، ومنشؤه بالكرك - قرية بالبقاع - ثم نقلته أمه إلى بيروت .
قال العباس بن الوليد : فما رأيت أبي يتعجب من شيء في الدنيا ، تعجبه من الأوزاعي . فكان يقول : سبحانك تفعل ما تشاء ! كان الأوزاعي يتيما فقيرا في حجر أمه ، تنقله من بلد إلى بلد ، وقد جرى حكمك فيه أن بلغته حيث رأيته ، يا بني ، عجزت الملوك أن تؤدب أنفسها وأولادها أدب الأوزاعي في نفسه ، ما سمعت منه كلمة قط فاضلة إلا احتاج مستمعها إلى إثباتها عنه ، ولا رأيته ضاحكا قط حتى يقهقه ، ولقد كان إذا أخذ في ذكر المعاد ، أقول في نفسي : أترى في المجلس قلب لم يبك ؟ ! .
الفسوي : سمعت العباس بن الوليد بن مزيد ، عن شيوخهم ، قالوا : قال الأوزاعي : مات أبي وأنا صغير ، فذهبت ألعب مع الغلمان ، فمر بنا فلان - وذكر شيخا جليلا من العرب - ففر الصبيان حين رأوه ، وثبت أنا ، فقال : ابن من أنت ؟ فأخبرته . فقال : يا ابن أخي ، يرحم الله أباك . فذهب بي إلى بيته ، فكنت معه حتى بلغت ، فألحقني في الديوان ، وضرب علينا بعثا إلى اليمامة ، فلما قدمناها ، ودخلنا مسجد الجامع ، وخرجنا ، قال لي رجل من أصحابنا : رأيت يحيى بن أبي كثير معجبا بك ، يقول : ما رأيت في هذا البعث أهدى من هذا الشاب ! قال : فجالسته فكتبت عنه أربعة عشر كتابا ، أو ثلاثة عشر ، فاحترق كله . [ ص: 111 ]
ابن زبر : حدثنا الحسن بن جرير ، حدثنا محمد بن أيوب بن سويد ، عن أبيه : أن الأوزاعي خرج في بعث اليمامة ، فأتى مسجدها ، فصلى ، وكان يحيى بن أبي كثير قريبا منه ، فجعل ينظر إلى صلاته ، فأعجبته ، ثم إنه جلس إليه ، وسأله عن بلده ، وغير ذلك ، فترك الأوزاعي الديوان ، وأقام عنده مدة يكتب عنه ، فقال له : ينبغي لك أن تبادر البصرة لعلك تدرك الحسن وابن سيرين ، فتأخذ عنهما . فانطلق إليهما ، فوجد الحسن قد مات ، وابن سيرين حيا ، فأخبرنا الأوزاعي : أنه دخل عليه فعاده ، ومكث أياما ومات ، ولم يسمع منه ، قال : كان به البطن .
قال محمد بن عبد الرحمن السلمي : رأيت الأوزاعي فوق الربعة ، خفيف اللحم ، به سمرة ، يخضب بالحناء .
محمد بن كثير : عن الأوزاعي ، قال : خرجت أريد الحسن ومحمدا ، فوجدت الحسن قد مات ، ووجدت ابن سيرين مريضا .
قال عبد الرزاق : أول من صنف ابن جريج ، وصنف الأوزاعي . أبو مسهر : حدثني الهقل ، قال : أجاب الأوزاعي في سبعين ألف مسألة ، أو نحوها .
قال إسماعيل بن عياش : سمعت الناس في سنة أربعين ومائة يقولون : الأوزاعي اليوم عالم الأمة . أخبرنا أبو مسهر ، حدثنا سعيد ، قال : الأوزاعي هو عالم أهل الشام . وسمعت محمد بن شعيب يقول : قلت لأمية بن يزيد : أين الأوزاعي من مكحول ؟ قال : هو عندنا أرفع من مكحول .
قلت : بلا ريب هو أوسع دائرة في العلم من مكحول . [ ص: 112 ] محمد بن شعيب ، قال : ثم قال أمية : كان قد جمع العبادة والعلم والقول بالحق . قال العباس بن الوليد البيروتي : حدثني رجل من ولد الأحنف بن قيس ، قال : بلغ الثوري ، وهو بمكة ، مقدم الأوزاعي ، فخرج حتى لقيه بذي طوى فلما لقيه ، حل رسن البعير من القطار ، فوضعه على رقبته ، فجعل يتخلل به ، فإذا مر بجماعة قال : الطريق للشيخ . روى نحوها المحدث سليمان بن أحمد الواسطي ، حدثنا عثمان بن عاصم . وروى شبيها بها إسحاق بن عباد الختلي عن أبيه : أن الثوري . . . بنحوها .
قال أحمد بن حنبل : دخل سفيان الثوري والأوزاعي على مالك ، فلما خرجا قال : أحدهما أكثر علما من صاحبه ، ولا يصلح للإمامة ، والآخر يصلح للإمامة - يعني الأوزاعي للإمامة . مسلمة بن ثابت : عن مالك ، قال : الأوزاعي إمام يقتدى به . الشاذكوني : سمعت ابن عيينة يقول : كان الأوزاعي والثوري بمنى ، فقال الأوزاعي للثوري : لم لا ترفع يديك في خفض الركوع ورفعه ؟ . فقال : حدثنا يزيد بن أبي زياد . . . فقال الأوزاعي : روى لك الزهري ، عن سالم ، عن أبيه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وتعارضني بيزيد رجل ضعيف الحديث ، [ ص: 113 ] وحديثه مخالف للسنة ، فاحمر وجه سفيان . فقال الأوزاعي : كأنك كرهت ما قلت ؟ قال : نعم . فقال : قم بنا إلى المقام نلتعن أينا على الحق . قال : فتبسم سفيان لما رآه قد احتد .
علي بن بكار : سمعت أبا إسحاق الفزاري يقول : ما رأيت مثل الأوزاعي والثوري ! . فأما الأوزاعي ، فكان رجل عامة ، وأما الثوري ، فكان رجل خاصة نفسه ، ولو خيرت لهذه الأمة لاخترت لها الأوزاعي - يريد الخلافة .
قال علي بن بكار : لو خيرت لهذه الأمة ، لاخترت لها أبا إسحاق الفزاري .
قال الخريبي : كان الأوزاعي أفضل أهل زمانه .
وعن نعيم بن حماد ، عن ابن المبارك ، قال : لو قيل لي : اختر لهذه الأمة ، لاخترت سفيان الثوري والأوزاعي ، ولو قيل لي : اختر أحدهما ، لاخترت الأوزاعي ; لأنه أرفق الرجلين . وكذا قال في هذا المعنى أبو أسامة .
قال عبد الرحمن بن مهدي : إنما الناس في زمانهم أربعة : حماد بن زيد بالبصرة ، والثوري بالكوفة ، ومالك بالحجاز ، والأوزاعي بالشام .
قال أحمد بن حنبل : حديث الأوزاعي عن يحيى مضطرب . الربيع المرادي : سمعت الشافعي يقول : ما رأيت رجلا أشبه فقهه بحديثه من الأوزاعي .
قال إبراهيم الحربي : سألت أحمد بن حنبل : ما تقول في مالك ؟ قال : حديث صحيح ، ورأي ضعيف . قلت : فالأوزاعي ؟ قال : حديث ضعيف ، ورأي ضعيف . قلت : فالشافعي ؟ قال : حديث صحيح ، ورأي صحيح . قلت : ففلان ؟ قال : لا رأي ولا حديث . [ ص: 114 ] قلت : يريد أن الأوزاعي حديثه ضعيف من كونه يحتج بالمقاطيع ، وبمراسيل أهل الشام ، وفي ذلك ضعف ، لا أن الإمام في نفسه ضعيف .
قال الوليد بن مسلم : رأيت الأوزاعي يثبت في مصلاه ، يذكر الله حتى تطلع الشمس ، ويخبرنا عن السلف : أن ذلك كان هديهم ، فإذا طلعت الشمس ، قام بعضهم إلى بعض ، فأفاضوا في ذكر الله ، والتفقه في دينه . عمر بن عبد الواحد : عن الأوزاعي ، قال : دفع إلي الزهري صحيفة ، فقال : اروها عني . ودفع إلي يحيى بن أبي كثير صحيفة ، فقال : اروها عني . فقال ابن ذكوان : حدثنا الوليد قال : قال الأوزاعي : نعمل بها ، ولا نحدث بها - يعني الصحيفة .
قال الوليد : كان الأوزاعي يقول : كان هذا العلم كريما ، يتلاقاه الرجال بينهم ، فلما دخل في الكتب ، دخل فيه غير أهله . وروى مثلها ابن المبارك ، عن الأوزاعي .
ولا ريب أن الأخذ من الصحف وبالإجازة يقع فيه خلل ، ولا سيما في ذلك العصر ، حيث لم يكن بعد نقط ولا شكل ، فتتصحف الكلمة بما يحيل المعنى ، ولا يقع مثل ذلك في الأخذ من أفواه الرجال ، وكذلك التحديث من الحفظ يقع فيه الوهم ، بخلاف الرواية من كتاب محرر . محمد بن عوف : حدثنا هشام بن عمار : سمعت الوليد يقول : احترقت [ ص: 115 ] كتب الأوزاعي زمن الرجفة ثلاثة عشر قنداقا فأتاه رجل بنسخها ، فقال : يا أبا عمرو ، هذه نسخة كتابك ، وإصلاحك بيدك ، فما عرض لشيء منها حتى فارق الدنيا .
وقال بشر بن بكر التنيسي : قيل للأوزاعي : يا أبا عمرو ، الرجل يسمع الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه لحن ، أيقيمه على عربيته ؟ قال : نعم ، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يتكلم إلا بعربي . قال الوليد بن مسلم : سمعت الأوزاعي يقول : لا بأس بإصلاح اللحن والخطأ في الحديث .
منصور بن أبي مزاحم ، عن أبي عبيد الله كاتب المنصور ، قال : كانت ترد على المنصور كتب من الأوزاعي نتعجب منها ، ويعجز كتابه عنها ، فكانت تنسخ في دفاتر ، وتوضع بين يدي المنصور ، فيكثر النظر فيها استحسانا لألفاظها ، فقال لسليمان بن مجالد - وكان من أحظى كتابه عنده - : ينبغي أن تجيب الأوزاعي عن كتبه جوابا تاما . قال : والله يا أمير المؤمنين ، ما أحسن ذلك ، وإنما أرد عليه ما أحسن ، وإن له نظما في الكتب لا أظن أحدا من جميع الناس يقدر على إجابته عنه ، وأنا أستعين بألفاظه على من لا يعرفها ممن نكاتبه في الآفاق . [ ص: 116 ]