البدعة: أقسامها والتحذير من مجالسة أهل البدع أو مخالطتهم
البدعة
أقسامها والتحذير من مجالسة أهل البدع أو مخالطتهم
أقسام البدع :
للبدع تقسيمات متعدِّدة، باعتبارات مختلفة، ذكرها العلماء ونصوا عليها، منها:
1- بدعة حقيقية، وبدعة إضافية:
أ- البدعة الحقيقية:
عرَّفها الشاطبيُّ بأنَّها ما لم يدلَّ عليها دليلٌ شرعيٌّ، لا من كتاب، ولا من سنَّة، ولا من إجماع، ولا استدلال معتبَر عند أهل العلم، لا في الجملة ولا في التفصيل؛ ولذلك سمِّيَت بِدعة؛ لأنَّها شيء مخترَع في الدِّين على غير مثالٍ سابق.
ومن أمثلتها:
أولاً: تحريم الحلال، أو تحليل الحرام، استنادًا إلى شُبَهٍ واهية، وبدون عذرٍ شرعيٍّ، أو قصد صحيح؛ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بينما النبيُّ صلى الله عليه وسلم يخطب إذا هو برجلٍ قائم فسأل عنه، فقالوا: أبو إسرائيل، نذَر أن يقوم ولا يقعد، ولا يستظلَّ ولا يتكلَّم، ويصومَ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((مروه فليتكلَّم، وليستظلَّ، وليقعد، وليتمَّ صومه)).
ويتبيَّن من هذا الحديث أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قد لفتَ نظره هذا المنظر أثناء خطبته والناس قعود، رجل قائم في الشَّمس، فتعجَّب النبيُّ صلى الله عليه وسلم من هذا المسلَك المنافي لرِفق ويسر الشريعة السَّمحة، فأمر بتقويمه وقال: ((مروه فليتكلَّم، وليستظل، وليقعد، وليتمَّ صومه))؛ فالله غنيٌّ عن مشقَّة هذا، التي لا فائدة وراءها، وأقرَّه على ما فيه فائدة ولا مشقَّة معه، وهو الصوم.
يقول ابن حجر: في الحديث من الفوائد:
أنَّ كل شيء يتأذَّى به الإنسان، ولو مآلاً، ممَّا لم يرد بمشروعيته كتاب أو سنَّة، كالمشي حافيًا، والجلوسِ في الشمس - ليس هو من طاعة الله، فلا يَنعقد به النذر؛ فإنَّه صلى الله عليه وسلم أمر أبا إسرائيل بإتمام الصَّوم دون غيره، وهو محمول على أنَّه لا يشق عليه، وأمره أن يَقعد ويتكلَّم ويستظل.
• وروى البخاريُّ بسنده: عن قيس بن أبي حازم قال: دخل أبو بكر على امرأةٍ من أحمس، يقال لها: زينب، فرآها لا تتكلَّم، فقال: ما لها لا تتكلَّم؟ قالوا: حجَّت مصمتة، فقال لها: "تكلَّمي؛ فإنَّ هذا لا يحلُّ، هذا من عمل الجاهليَّة"، فتكلَّمَت فقالت: من أنتَ؟ قال: "امرؤ من المهاجرين"، وفي ذلك ما يفيد أنَّ تحريم الحلال مخالِف للشرع، بل من عمل الجاهليَّة؛ فإحداثه على أنَّه مما يقرِّب إلى الله من البِدَع، وسواء في ذلك أكان التحريم مؤكدًا بيمينٍ أم لا.
ومما تقدَّم من الأحاديث نستنتج الأمورَ الآتية:
• أنَّ البِدَع قد بدأَت بوادرها في عهد النبوَّة، كما تبيَّن من تحريم أناس بعضَ ما أحل الله؛ فحذَّر النبيُّ صلى الله عليه وسلم من ذلك.
• أنَّ هذه البِدَع قد فعلها أصحابُها بدافع التقرُّب إلى الله، فلم يُقِرهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّها بِدعة مُحدَثة.
• أنَّ ذلك كان في مجال العِبادة، فعلوها للتزوُّد من الخير، ولكن ليس كلُّ مريد للخير يَسلك الطريقَ الصحيح الموصِّل إليه.
• أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم قاومَ هذا الاتجاه، وقوَّم هذه المغالاة.
• أنَّ ذلك الإحداث والغلوَّ كان منحصرًا في أفرادٍ لا جماعات، بخلاف ما وصل إليه حال المسلمين في هذا الزَّمان؛ فإنَّ البِدَع أصبحَت تشكِّل جماعات وأحزابًا مختلفة، ﴿ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ﴾ [المؤمنون: 53].
ثانيًا: ومِن البِدَع الحقيقيَّة: اختراعُ عبادةٍ ما أَنزل اللهُ بها من سلطان؛ كصلاة سادسة مثلاً بركوعين في كلِّ ركعة، أو بغير طهارة.
ثالثًا: ومنها إنكارُ الاحتجاج بالسنَّة، أو تقديم العقل على النقل، وجعله أصلاً، والشرع تابعًا له.
رابعًا: ومنها القول بارتفاع التكالِيف عند الوصول إلى مرحلةٍ معيَّنة مع بقاء العقل وشروط التكلِيف، فلا تجب عند ذلك طاعات، ولا تحرم محرَّمات، بل يصير الأمر على حسب الهوى والرَّغبات.
خامسًا: ومن هذه البِدَع تخصيص مكانٍ - كبِئرٍ، أو شجرة، أو نحوها - بخصوصيَّة معيَّنة، من اعتقاد جَلْب خيرٍ، أو دفع ضرٍّ، بلا استناد إلى خبر صحيح.
ب- البدعة الإضافية:
وهي الأمر المبتدَع مضافًا إلى ما هو مشروع بزيادةٍ أو نقص.
وقد عرَّفها الشاطبيُّ بأنَّها ما لها شائبتان:
إحداهما: لها من الأدلَّة متعلَّق، فلا تكون من تلك الجهة بِدعة.
والأخرى: ليس لها متعلَّق إلاَّ مثل ما للبدعة الحقيقية؛ أي: إنَّها بالنِّسبة لإحدى الجهتين سُنَّة؛ لاستنادها إلى دليلٍ، وبالنِّسبة للجهة الأخرى بِدعة؛ لأنَّها مستندة إلى شُبهة، لا إلى دليل، أو لأنَّها غير مستندة إلى شيء.
وسُمِّيَت إضافيَّة: لأنَّها لم تخلص لأحد الطَّرفين، لا بالمخالفة الصَّريحة، ولا بالموافقة الصريحة.
والفرقُ بين البدعة الحقيقيَّة والإضافيَّة من جهة المعنى: أنَّ الدليل على الإضافيَّة من جهة الأصل قائمٌ، ومن جِهة الكيفيَّات، أو الأحوال، أو التفاصيل لم يقم عليها، مع أنَّها محتاجة إليه؛ لأنَّ الغالب وقوعها في التعبُّديات، لا في العاديات المحضَة.
ومن أمثلتها: ذِكر الله تبارك وتعالى على هَيئة الاجتماع بصوتٍ واحد؛ فالذِّكر مشروع، لكن أداؤه على هذه الكيفيَّة غير مشروع، بل هو بِدعة مخالِفة للسنَّة، وعليه يُحمل قول ابن مسعود للجماعة الذين كانوا يَجتمعون في المسجد وفي أيديهم حصًى، فيسبِّحون ويكبِّرون بأعداد معيَّنة؛ حيث قال لهم: "والله لقد جِئتم ببدعةٍ ظلمًا، أو فَضَلتُم أصحابَ نبيكم علمًا".
ومن أمثلتها أيضًا: تخصيص يوم النِّصف من شعبان بصيام، وليلته بقيام، وإفراد شَهر رجب بالصوم أو عبادةٍ أخرى.
فالعبادات مَشروعة، ومنها الصوم، لكن يأتي الابتداع من تَخصيص الزمان أو المكان، إذا لم يَأتِ تخصيص ذلك في كتاب الله تعالى، أو سنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم.
والبدعة الإضافيَّة أشدُّ خطورة من الحقيقيَّة، من حيث الشُّبَه التي يَستند إليها المبتدِعُ في فعلها، فإنَّك إذا سألتَه عن دليل ذلك قال: إنَّه يذكر اللهَ، ويصوم لله، فهل الذِّكر والصيام محرَّمان؟ ومِن ثَمَّ يستمْرِئها، ويداوم عليها، وقد لا يتوب منها في الغالِب؛ ذلك أنَّ الشبهات أخطر الأمور على الدين؛ فهي أخطر من الشَّهوات، وإن كان الجميع خطيرًا؛ لأنَّ إبليس اللَّعين لمَّا يئس من تضليل المسلمين بالمعاصي دخل عليهم من باب العِبادة؛ فزيَّن لهم البِدَع بحجَّة التقرُّب إلى الله، وهنا مَكمن الخطر، فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون.
2-البدعة التَّركيَّة والفعليَّة:
قبل الكلام عن البدعة التَّركيَّة والفعلية لا بدَّ من تبيين: هل الترك يعدُّ فِعلاً من الأفعال الاختياريَّة، ويكون بذلك طاعة من الطَّاعات، أو معصية من المعاصي؟ والذي يَظهر لي من أقوال العلماء أنَّه فِعل من أفعال التعبُّد، ويدلُّ عليه قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ [المائدة: 87]؛ فإنَّ الترك لِما أمر الله يعدُّ بِدعة من البِدَع.
فالبدعة تكون بفِعل غيرِ المشروع، كما تكون بتركِ ما هو مباحٌ أو مَشروع، أو بعبارة أخرى: فِعل ما ترَكه الشارِع، وترك ما شرَعَه أو ما أباحه تقرُّبًا وديانةً...
فقد يَقع الابتداع بنفس التَّرك تحريمًا للمتروك، أو غير تحريم؛ فإنَّ الفعل مثلاً يكون حلالاً بالشرع، فيحرِّمه الإنسان على نفسه، أو يقصد تركَه تديُّنًا.
التارك للمطلوبات على ضربين:
أحدهما: أن يتركها لغير التديُّن؛ إمَّا كسَلاً، أو تضييعًا، أو ما أشبه ذلك من الدَّواعي النفسية؛ فهذا الضَّرب راجع إلى المخالفة للأمر؛ فإن كان في واجبٍ فمعصية، وإن كان في ندبٍ، فليس بمعصية، إذا كان الترك جزئيًّا، وإن كان كليًّا، فمعصية، حسبما تبيَّن في الأصول.
والثاني: أن يتركها تديُّنًا؛ فهذا الضرب من قَبيل البِدَع.
فهذا التَّرْك إمَّا أن يكون لأمرٍ يُعتبر مثله شرعًا أو لا؛ فإن كان لأمرٍ يُعتبر فلا حرج فيه؛ إذ معناه أنَّه تَرك ما يجوز تركه، أو ما يُطْلب تركُه؛ كالذي يُحَرِّم على نفسه الطعامَ الفلانيَّ من جهة أنَّه يضره في جِسمه أو عقله أو دينه، وما أشبه ذلك، فلا مانع هنا من الترك، بل إن قُلنا بطلب التداوي للمريض، فإنَّ الترك هنا مَطلوب، وإن قلنا بإباحة التداوي، فالترك مُباح.
وكذلك إذا ترك ما لا بأس به؛ حذرًا ممَّا به البأس، فذلك من أوصاف المتَّقين، وكتارِك المتشابه؛ حذرًا من الوقوع في الحرام، واستبراءً للدِّين والعِرض.
وأمَّا إن كان التَّرك تديُّنًا: فهو الابتداع في الدِّين؛ إذ قد فرضنا الفعل جائزًا شرعًا، فصار الترك المقصود معارَضة للشارع.
أمَّا عن البدعة الفِعليَّة: فهي كثيرة، ومنها اختراع أحاديث مَكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والزِّيادة في شرع الله ما ليس منه، كمن يزيد في الصلاة رَكعةً، أو يزيد في وقت الصيام المحدَّد من اليوم، أو يصلِّي في أوقات النَّهي عن الصلاة، أو يصوم في أوقات النَّهي عن الصيام، أو يُدخل في الدِّين ما ليس منه من الآراء أو الأفعال.
3- البدعة الاعتقادية والقولية والعملية:
1- البدعة الاعتقاديَّة: وهي اعتقاد الشيء على خِلاف ما جاء عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ كبِدعة الجهميَّة، والمعتزلة، والرَّافِضة، وسائر الفِرَق الضالَّة، ويَدخل في ذلك الفِرَقُ التي ظهرَت حديثًا؛ كالقاديانيَّة، والبهائيَّة.
2- البدعة القولية: تغيير قولٍ جاءت به الشريعة، أو ابتداع قولٍ لم تأتِ به الشريعةُ؛ كالقول بخَلق القرآن...، وغيره.
3- البدعة العمليَّة: العمل الذي يخالِف أمرَ الله، وهي أنواع:
النوع الأول: بِدعة في أصل العِبادة، فيُحدث عبادةً ليس لها أصل في الشَّرع؛ كأن يُحدِث صلاة غير مشروعة، أو صيامًا غير مشروع، أو أعيادًا غير مشروعة؛ كأعياد الموالد وغيرها.
النوع الثاني: ما يكون من الزِّيادة على العِبادة المشروعة، كما لو زاد ركعةً خامسة في صلاة الظهر أو العصر مثلاً.
النوع الثالث: ما يكون في صفة أداء العِبادة المشروعة؛ بأن يؤدِّيها على صفةٍ غير مشروعة، وكذلك أداء الأذكار المشروعة بأصواتٍ جماعيَّة مطربة، وكالتعبُّد بالتشديد على النَّفس في العبادات إلى حدٍّ يُخرج عن السنَّة، ومن أمثلته: قصَّة الثلاثة الذين جاؤوا إلى بيوت أزواج النبيِّ صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته، فلما أُخبروا بها كأنَّهم تقالُّوها، فقالوا: وأين نحن من النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم؛ قد غَفر اللهُ له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر؟! قال أحدهم: أمَّا أنا فأصلِّي الليلَ أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدَّهرَ ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساءَ فلا أتزوج أبدًا، فجاء رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((أنتم الذين قُلتم كذا وكذا؟ أَما واللهِ إنِّي لأخشاكم لله، وأتقاكم له؛ لكنِّي أصومُ وأفطِر، وأصلِّي وأرقد، وأتزوَّج النساء؛ فمن رَغِب عن سنَّتي فليس منِّي)).
النوع الرابع: ما يكون بتخصيص وقتٍ للعبادة المشروعة لم يخصِّصه الشرعُ؛ كتخصيص يوم النِّصف من شعبان بصيام، وليلته بقيام؛ فإنَّ أصل الصيام والقيام مشروع، ولكن تخصيصه بوقت من الأوقات يحتاج إلى دليل.
4- البدعة الكليَّة والجزئية:
تتفاوت البِدَع فيما بينها من ناحية آثارِها، ومن ناحية الخَلَل الواقع بسببها في الشريعة.
فإذا كانت البِدعة لا يقتصر أثرها على المبتدِع، بل يتعدَّاه إلى غيره، كانت كليَّة؛ لسريانها في كثيرٍ من الأمور، أو بين كثيرٍ من الأفراد؛ كبِدعة التحسين والتقبيح بالعقل بدلاً من الشَّرع، وبدع إنكار حجيَّة خبر الآحاد، أو إنكار وجوب العمل بما يَقتضيه، ونحو ذلك.
أمَّا إذا كانت مقصورة على المبتدِع لا تتعدَّاه إلى غيره، فهي بِدعة جزئيَّة؛ كرجل التزم مخالفةً للسنَّة على أنَّها من الأمور الحسنة في نظر الشَّرع، ولا يمتد أثر هذه المخالَفة إلى غيره؛ لكونه لا يُؤبَه له، وليس ممَّن يُقتدى بهم فيما يَرون من آراء أو يؤدُّون من أعمال.
5 - البدعة البسيطة والمركَّبة:
تكون البدعةُ بسيطةً إذا كانت مجرَّد مخالفة يسيرة، لا تستتبع مخالفاتٍ أُخَر؛ كمن يُتبع النَّفلَ الفرض بلا فاصلٍ من تسبيح ونحوِه، أو يفعل ما يماثِل ذلك.
وتكون مركَّبة إذا اشتملَت على عِدَّة بِدَع تداخلَت وصارت كأنَّها وحدة واحِدة؛ كاعتقاد الشِّيعة عصمةَ الإمام، وانتشار كثيرٍ من البِدَع بينهم على أساس هذا الاعتقاد، وما شابه ذلك مِن البِدَع.
تنبيه في تقسيم البدعة إلى حسنَة وسيئة:
مَن قسَّم البِدعة إلى: بِدعة حسنة، وبِدعة سيئة؛ فهو غالِط ومخطئ ومخالِف لقوله صلى الله عليه وسلم: ((فإنَّ كلَّ بِدعة ضلالة))؛ لأنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم حكَم على البدعة كلِّها بأنَّها ضلالة، وهذا يقول: ليس كلُّ بِدعة ضلالة، بل هناك بدعة حسنة!
قال الحافظ ابن رجب في "شرح الأربعين": "فقوله صلى الله عليه وسلم: ((كلُّ بِدعة ضلالة)) مِن جَوامع الكَلِم، لا يَخرج عنه شيء، وهو أصلٌ عظيم من أصول الدِّين، وهو شبيه بقوله صلى الله عليه وسلم: ((مَن أَحدَث في أمرنا ما ليس منه، فهو ردٌّ))؛ فكلُّ مَن أحدث شيئًا ونسبه إلى الدِّين، ولم يكن له أصلٌ من الدِّين يرجع إليه - فهو ضَلالة، والدِّين بريءٌ منه، وسواء في ذلك مسائل الاعتقادات، أو الأعمال، أو الأقوال الظَّاهرة والباطنة"؛ انتهى.
وليس لهؤلاء حجَّةٌ على أنَّ هناك بدعةً حسنةً إلاَّ قولُ عمر رضي الله عنه في صلاة التراويح: "نِعمت البدعة هذه"، وقولهم - أيضًا -: إنَّها أُحدثَت أشياء لم يَستنكرها السلَف؛ مِثل جَمع القرآن في كتابٍ واحد، وكتابة الحديث وتدوينه.
والجواب عن ذلك: أنَّ هذه الأمور لها أصلٌ في الشرع؛ فليسَت مُحدَثة، وقول عمر: "نِعمت البدعة"؛ يريد البِدعة اللغويَّة لا الشرعيَّة؛ فما كان له أصل في الشَّرع يرجع إليه؛ فهو بِدعةٌ لُغةً لا شرعًا؛ لأنَّ البدعة شرعًا ما ليس له أصل في الشرع يرجع إليه، والتراويح قد صلاَّها النبيُّ صلى الله عليه وسلم بأصحابه لياليَ، وتخلَّف عنهم في الأخير؛ خشية أن تُفرض عليهم، واستمرَّ الصحابةُ رضي الله عنهم يصلونها أوزاعًا متفرِّقين في حياة النبيِّ صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته، إلى أن جمعهم عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه خلف إمامٍ واحد، كما كانوا خَلف النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وليس هذا بِدعة في الدِّين.
وجَمْع القرآن في كتابٍ واحد له أصل في الشرع؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يأمر بكتابة القرآن، لكن كان مكتوبًا متفرِّقًا، فجمعه الصحابةُ رضي الله عنهم في مصحفٍ واحد؛ حِفظًا له.
وكتابة الحديث - أيضًا - لها أصلٌ في الشَّرع؛ فقد أمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم بكتابة بعض الأحاديث لبعض أصحابه لمَّا طلب منه ذلك، وكان المحذور من كتابته - بِصفة عامَّة في عهده صلى الله عليه وسلم - أن يَختلط بالقرآن ما ليس منه، فلما تُوفِّي صلى الله عليه وسلم، انتفى هذا المَحذور؛ لأنَّ القرآن قد تكامَل وضُبط قبل وفاتِه صلى الله عليه وسلم، فدوَّن المسلمون السنَّةَ بعد ذلك؛ حِفظًا لها من الضَّياع؛ فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خيرًا؛ حيث حفظوا كتابَ ربِّهم وسنَّةَ نبيِّهم عليه الصلاة والسلام من الضَّياع وعبَث العابثين.
الحذر من مجالسة أهل البِدَع أو مخالطتهم:
كان السلَف رضوان الله عليهم ينهَون عن البِدعة، وعن مجالسة أصحابها؛ لِما في ذلك من خطر البِدعة وصاحبها على الدِّين، وهذا بعض ما ورد عنهم:
• عن الفُضيل بن عِياض: "إذا رأيتَ مبتدِعًا في طريق، فخُذ في طريقٍ آخر، ولا يُرفع لصاحب بِدعة إلى الله عز وجل عملٌ، ومَن أعان صاحبَ بِدعة، فقد أعان على هَدم الدِّين".
• قال عبدالرزاق: قال لي إبراهيم بن أبي يحيى: إنِّي أرى المعتزلةَ عندكم كثيرًا.
قلت: نعم، وهم يزعمون أنَّك منهم.
قال: أفلا تَدخل معي هذا الحانوت حتى أكلِّمك؟
قلت: لا.
قال: لمَ؟
قلت: لأنَّ القلب ضَعيف، وإنَّ الدِّين ليس لمن غلَب.
• قال الفُضَيل: "صاحب البِدعة لا تأمَنه على دِينك، ولا تشاوِره في أمرك، ولا تجلِس إليه".
• قال أبو قلابة: "لا تجالسوا أهلَ الأهواء، ولا تجادلوهم؛ فإنِّي لا آمن أن يغمسوكم في ضَلالاتهم، أو يَلبِسوا عليكم في الدِّين بعضَ ما لبسَ عليهم".
• وقال رجلٌ من أهل البِدَع لأيوب السختياني: يا أبا بكر، أسألك عن كلمة...؟ فولَّى وهو يقول بيده: ولا نِصف كلمة.
• وقال سفيان الثَّوري: "من سَمِع بدعةً، فلا يحكِها لجلسائه، لا يلقيها في قلوبهم".
• وقد دخل على محمد بن سرين رجلان من أهل الأهواء، فقالا: يا أبا بكر، نحدِّثك بحديث؟
قال: لا.
قالا: فنقرأ عليك آيةً من كِتاب الله؟
قال: لا، لتقومان عنِّي، أو لأقومنَّ.
فخرجا، فقال بعضُ القوم: يا أبا بكر، وما كان عليك أن يقرأا عليك آيةً من كتاب الله تعالى؟
قال: إنِّي خشيت أن يقرأا عليَّ آيةً فيحرِّفاها، فيقر ذلك في قلبي.
• كان رجلٌ من أهل السنَّة إذا جاءه بعضُ أهل الأهواء، قال: أما أنا فعلى بيِّنة من ربِّي، وأمَّا أنت فشاكٌّ، فاذهب إلى شاكٍّ مثلِك.
• قال مَعن بن عيسى: انصرَف مالِك بن أنس يومًا من المسجد وهو متَّكئ على يدي، فلحِقَه رجلٌ يقال له: أبو الجويرية، كان يُتَّهم بالإرجاء، فقال: يا أبا عبدالله، اسمع منِّي شيئًا أكلِّمك وأحاجُّك وأخبرك برَأيي.
قال: فإن غلبتَني.
قال: إن غلبتُك اتَّبعتَني.
قال: فإن جاء رجلٌ آخر فكلَّمَنا فغلبَنا؟
قال: نتبعه.
قال مالك رحمه الله: يا عبد الله، بعثَ الله عزَّ وجل محمدًا صلى الله عليه وسلم بدِينٍ واحد، وأراك تتنقل من دينٍ إلى دِين.
• وقال عمر بن عبدالعزيز: "مَن جعل دينَه غَرَضًا للخصومات، أكثَر التنقُّل".
• جاء رجل إلى الحسن فقال: يا أبا سعيد، تعال حتى أخاصمك في الدِّين.
فقال الحسَن: فأمَّا أنا فقد أبصرتُ دِيني، فإن كنتَ أضللتَ دينك، فالتمِسه.
• قال عبدالله بن السري: ليس السنَّة عندنا أن تردَّ على أهل الأهواء، ولكن السنَّة عندنا ألا تكلِّم أحدًا منهم.
ويدلُّ الكلام السَّابق على عِظَم إنكار البدع عند علماء السَّلَف؛ لأنَّهم علموا ما في البِدَع من طَمسٍ للدِّين، وذهابٍ للشرع، والإتيان بدين وشرعٍ لا يعرفه أهل الإسلام.
فالموقف الأصلي العام للسلَف من المبتدعة هو هَجرهم، وتَرك مجالستهم ومناظرتِهم؛ لأنَّ الأمورَ الباعثة لهم على الهَجر من المصالح الدَّائمة الغالب وجودها؛ مِثل: الخوف من انتشار البِدعة، أو التأثُّر بها، أمَّا إن تخلَّفَت هذه المصالح، أو كانت المصلحة في غير ذلك الهَجر، فإنَّ الحكم هنا دائرٌ مع مَنفعته، وإذا عرف مقصود الشَّريعة سلَك في حصوله أَوْصلَ الطرقِ إليه؛ كما ذكر ابن تيميَّة.
ولا بدَّ أن يُعلَم عند دعوة أهل البدع أنَّ مناظرة أهل الأهواء من أخطر أنواع المناظرات، وعليه يُحمل أكثر كلامِ السلَف في التحذير من ذلك، فينبغي على من تصدَّى لدعوتهم ومناظرتهم أن يتسلَّح بالعلم الشَّرعي؛ وذلك لما يترتَّب عليه من آثارٍ؛ مثل:
• ما يمكن أن يَقع في قلب مَن يناظر أهلَ البِدَع من شُبَهٍ أو شكوك.
• في مناظرتهم نَشرٌ لبدعتهم، وفي الإعراض عنهم إخمادٌ لها.
• في مناظرتهم تَقوية لهم، ورفعٌ لشأنهم.